البدوي
11-01-2017, 07:07 AM
لطائف الأعداد في السنة والكتاب - منقول للافادة
الحمد لله حمدا كثيرا، قال عَزَّ مِن قائل : ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا، وصلى الله على محمد - عبد الله - أرسله مبشرا ونذيرا وسراجا منيرا، أما بعد :
فَلِكثرة ما يلقى في هذا المنتدى المبارك وغيره من أقوال صادّة، ومباحث جادّة إزاء الإعجاز العددي في القرآن الكريم، وتناسب الكلمات والآيات والسور عدديا ورقميا، كان لابد من وضع النقاط على الحروف، للإجابة على هذا التساؤل : هل لهذا العلم أصل في الشرع ؟ وهل له بذور عند السلف ؟
ففي تفسير القرطبي (1/92) : "روى وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال : من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ليجعل الله تعالى له بكل حرف منها جُنة من كل واحد. فالبسملة تسعة عشر حرفا على عدد ملائكة أهل النار الذين قال الله فيهم : عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ، وهم يقولون في كل أفعالهم : "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" فمن هنالك هي قوتهم، وببسم الله استضلعوا. قال ابن عطية : ونظير هذا قولهم في ليلة القدر : إنها سبع وعشرين، مراعاة للفظة "هي" من كلمات سورة إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ، ونظيره أيضا قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل : ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فإنها بضعة وثلاثون حرفا، فلذلك قال النبي الله صلى الله عليه وسلم : "لقد رأيت بضعا وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول". قال ابن عطية : وهذا من ملح التفسير وليس من متين العلم" اهـ.
يظهر من كلام القرطبي اعتماد الأعداد كنوع من أنواع التأويل، وختم بقول ابن عطية الذي يكاد يكون قاعدة في التعامل مع هذا العلم : هذا من ملح التفسير لا من متين العلم.
ومما قاله ابن حجر في حديث رفاعة بن رافع المتقدم في كلام القرطبي : "قيل الحكمة في اختصاص العدد المذكور من الملائكة بهذا الذكر أن عدد حروفه مطابق للعدد المذكور، فإن البضع مع الثلاث إلى التسع وعدد الذكر المذكور ثلاثة وثلاثون حرفا، ويعكر على هذا الزيادة المتقدمة في رواية رفاعة بن يحيى وهي قوله : "مباركاعليه كما يحب ربنا ويرضى" بناء على أن القصة واحدة. ويمكن أن يقال : المتبادر إليه هو الثناء الزائد على المعتاد وهو من قوله : "حمدا كثيرا إلخ" دون قوله : "مباركا عليه" فإنه كما تقدم للتأكيد وعدد ذلك سبعة وثلاثون حرفا، وأما ما وقع عند مسلم من حديث أنس : "لقد رأيت اثني عشر ملكا يبتدرونها" وفي حديث أبي أيوب عند الطبراني : "ثلاثة عشر" فهو مطابق لعدد الكلمات المذكورة في سياق رفاعة بن يحيى ولعددها أيضا في سياق حديث الباب لكن على اصطلاح النحاة، والله أعلم".
فابن حجر لم ينكر هذه الموافقات العددية، بل راح يجمع الأقوال ويجعل لها إمكانية حفاظا على المعنى المستفاد.
وفي مقدمة "أصول الدين" للإمام أبي منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي (429هـ) : "هذا كتاب ذكرنا فيه خمسة عشر أصلا من أصول الدين وشرحنا كل أصل منها بخمس عشْرة مسألة من مسائل العدل والتوحيد والوعد والوعيد ..."
ثم يقول بعد ذكر الأصول : "وقد جاءت في الشريعة أحكام مرتبة على خمسة عشر من العدد، وأجمعت الأمة على بعضها واختلفوا في بعضها، فمنها على اختلاف سن البلوغ لأنها عند الشافعي في الذكور والإناث خمس عشرة سنة بسنيِ العرب دون سني الروم والعجم، ومنها مدة أكثر الحيض عند الشافعي وفقهاء المدينة خمسة عشر يوما بلياليها، ومنها أول الطهر الفاصل بين الحيضتين فإنه عند أكثر الأئمة خمسة عشر يوما ... فأما على أصل أبي حنيفة وأتباعه فإن كلمات الأذان عندهم خمس عشرة، ومقدار مدة الإقامة التي توجب إتمام الصلاة خمسة عشر يوما ... وأجمعوا على وجوب خمسة عشر درهما في زكاة ستمائة درهم، وخمسة عشر دينارا في زكاة ستمائة دينار، فإذا بلغت الإبل السائمة ستمائة وجب فيها خمس عشرة بنت لبون ... وإذا بلغت البقر السائمة ستمائة وجب فيها خمس عشرة مُسنّة ... فإن كانت أربعمائة وخمسين بقرة وجب فيها خمسة عشر تبيعا أو تبيعة، وأجمعوا على أن الواجب في مُنَقِّلة الرجل الحر خمس عشرة من الإبل، وفي ثلاثة من أسنان الرجل الحر خمسة عشر بعيرا، وفي ستة من أسنان المرأة خمسة عشر بعيرا، وفي ثلاثِ أصابع المرأة الحرة خمسة عشر بعيرا، ومثل هذا كثير من أحكام الشريعة، ولأجلها لم يكره تقسيم قواعد الدين على خمسة عشر أصلا وتقسيم كل أصل منها خمس عشرة مسألة ..." اهـ.
فهذا ابن طاهر البغدادي يتكلف إظهار العدد خمسة عشر في صورة مقدسة حتى يسيغ لنفسه تقسيم الدين إلى خمسة عشر أصلا، والأصل إلى خمس عشرة مسألة ؛ يستعمل العدد كوسيلة منهجية، ويبرر ذلك شرعًا.
أما في مجال الفقه فكان العدد وسيلة للحفظ والتمكن من الفروع، شأنه شأن الشعر والقواعد، كما في قسم العبادات لقوانين ابن جزي الغرناطي (1/17) : "الفصل الثاني : في فرائض الوضوء وهي ستة ... الفصل الثالث : في سننه وهي سِت ... الفصل الرابع : في فضائل الوضوء ومكروهاته، أما فضائله فست ... وأما مكروهاته فست ...".
وفي باب الاغتسال (1/21) : "الفصل الثاني : في فرائضه وهي خمسة ... الفصل الثالث : في سننه وهي خمس ... الفصل الرابع : في فضائله وهي خمس ... ومكروهاته خمس ... فروع خمسة ...".
ثم في باب المياه (1/23) : "الفصل الأول : في أقسام المياه وهي خمسة ... الفصل الثاني : في الأسئار وفيها خمس مسائل ...".
هذه إحدى طرق التعلم والتعليم التي اشتهرت عند جملة من الفقهاء، تكلفوا المشاكلات العددية - مع ما في ذلك من تعسف - لكي يمكنوا المبتدئين من الحفظ والفهم مع ما يرون في ذلك التناسب من إعجاز نبوي، فتراهم - مثلا – جمعوا للإمام ابن حنبل اثنا عشر مسألة لكُلٍّ له فيها عشرة أقوال، في نسبتها إليه الضعيف والمرسل والمعضل والمضطرب والمنقطع وكل أنواع العلل في سبيل تحصيل السبق العددي ...
وفي مواضع متفرقة من كتاب الأمنية في إدراك النية للقرافي : "ثم إن هذه الإرادة متنوعة إلى العزم والهم والنية والشهوة والقصد والاختيار والقضاء والقدر والعناية والمشيئة فهي عشرة ألفاظ ... وأما كونه عليه السلام قال الأعمال بالنيات ولم يقل الأفعال ولا الإيثار ولا الإيجاد، فإن الفرق واقع بين أثر وأوجد وخلق وفعل وعمل وصنع وبرأ ودرأ وجعل وكسب فهذه عشرة ألفاظ ... وقد يكون للحكم الواحد عدة أسباب كإيجاب الوضوء بنحو عشرة أسباب ...وها أنا أبسط من موارد النية في نظر الشرع ما يمهد لك هذا البحث في عشرة أنواع... وللرفض في النية بعد وقوعها نظائر في الأشكال من جهة رفع الشيء بعد وقوعه، أحدها (وعدّ عشرة أشكال) ... ولنقتصر على هذا القدر من التنبيه ونشرع في الجواب عن تلك العشرة مع المسائل المذكورة في المسألة فنقول ..."
ربما حمل القرافي على نفسه في "تَعشير" كتابه قوله في ثنايا بحثه : "الإنسان يثاب على نية واحدة وعلى الفعل عشرا"، والكتاب وضع أصلا للإحاطة بقوله صلى الله عليه وسلم : "إنما الأعمال بالنيات"، فكأن إعجاز العدد تسلل إلى ذاته فصبغ كتابه - على صغر جرمه - بعشاريات.
فترى أن استعمال إعجاز العدد في التفسير والفقه والعقائد وغيرها من العلوم سنة جارية عند أهل العلم شرقا وغربا، لم يُر نكيرا على أحدهم ولا أُثر، إلا من قبيل ما يأتي :
- أنه من مُلَح التفسير ونكت التأويل لا من متين العلم ؛ فلا نبنِ عليه أحكاما كونية كنهاية العالم، أو سقوط إسرائيل ... ولا يستغرق وقتنا على حساب الواجب والأوجب ؛ فالعدل قبل الإحسان، والاقتصاد قبل الترف، والحاجة قبل الكمال.
- أنه من أدلة الاستئناس وليس بدليل مستقل، مثاله ما ذكر القرطبي عن ابن عطية في بيان ليلة القدر.
- أنه وسيلة منهجية لتحصيل غايات علمية – لا خرافية – كتسهيل الحفظ وتيسير الفهم أو تبرير تقسيم الكتاب وتبويبه أو لطابع جمالي بلاغي أو غير ذلك.
- عدم الغلو والإفراط في استخدام الأعداد والأرقام وتكلف المشاكلات، كما أن الغلو مذموم مطلقا لقوله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس : "إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين"، قال المناوي رحمه الله : "أي التشديد فيه ومجاوزة الحد، وتتبع الغوامض، والكشف عن علل وغوامض المتعبدات".
قال ابن القيم رحمه الله رحمة واسعة في سياق كلامه عن الحديث الذي رواه أبو داود في "سننه" عن مُجاهدٍ، عن سعد، قال : "مَرضتُ مرضاً، فأتَانِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعُودني، فَوَضَعَ يَدَه بين ثَديَيَّ حَتَّى وَجَدتُ بَرْدَها على فؤادي، وقال لي : إنَّكَ رجُلٌ مَفْؤُودٌ فأْتِ الحارَثَ بن كَلَدَةَ من ثَقِيفٍ، فإنَّه رجلٌ يتطبَّبُ، فلْيأْخُذْ سبعَ تَمَراتٍ من عَجْوَةِ المدينةِ، فلْيَجأْهُنَّ بِنَواهُنَّ، ثم لِيَلُدَّكَ بِهِنَّ".
قال (الطب النبوي، ص : 99-100) : وأمَّا خاصية السَّبْعِ، فإنها قد وقعت قدْراً وشرعاً، فخلق الله عَزَّ وَجَلَّ السَّمواتِ سبعاً، والأرضَينَ سبعاً، والأيام سبعاً، والإنسان كمل خلقه في سبعة أطوار، وشرع الله سبحانه لعباده الطواف سبعاً، والسعي بين الصفا والمروة سبعاً، ورمىَ الجمارِ سبعاً سبعاً، وتكبيراتِ العيدين سبعاً في الأولى ؛ وقال صلى الله عليه وسلم : "مُرُوهم بالصَّلاةِ لسَبْعٍ"، "وَإِذَا صَارَ للغُلامِ سَبْعُ سِنِينَ خُيِّرَ بين أبويه" في رواية، وفي رواية أخرى : "أبُوه أحقُّ به من أُمِّهِ"، وفي ثالثة : "أُمُّهُ أحَقُّ به"، وأمر النبيَّ صلى الله عليه وسلم في مرضه أن يُصَبَّ عليه من سبعِ قِرَبٍ، وسَخَّر الله الريحَ على قوم عادٍ سبع ليال، وَدَعَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُعينَه اللهُ على قومه بسبعٍ كسبعِ يوسف، ومَثَّلَ اللهُ سبحانه ما يُضاعِفُ به صَدَقَةَ المتصدِّقِ بِحَبَّةٍ أنبتت سبعَ سنابل في كلِّ سُنبلة مائة حَبَّةٍ، وَالسَّنابل التي رآها صاحبُ يوسفَ سبعاً، والسنين التي زرعوها دأْباً سبعاً، وتُضاعَفُ الصدقة إلى سبعمائة ضِعف إلى أضعاف كثيرة، ويدخل الجنََّة من هذه الأُمَّة بغير حساب سبعون ألفاً.
فلا ريب أنَّ لهذا العدد خاصيَّة ليست لغيره، والسبعة جمعت معانيَ العدد كله وخواصه، فإن العددَ شَفْعٌ ووَتْرٌ ؛ والشَفْع : أول وثان ؛ والوَتْر : كذلك، فهذه أربع مراتب : شفع أول، وثان ؛ ووتر أول، وثان، ولا تجتمع هذه المراتبُ في أقلِّ مِن سبعة، وهي عدد كامل جامع لمراتب العدد الأربعة، أعني الشَفْع والوَتْر، والأوائل والثواني، ونعني بالوَتْر الأول : الثلاثة، وبالثاني الخمسة ؛ وبالشَفْع الأول : الاثنين، وبالثاني : الأربعة، وللأطباء اعتناءٌ عظيم بالسبعة، ولا سِيَّما في البحارين.
وقد قال "بقراط" : كل شيء في هذا العالَم فهو مقدَّر على سبعة أجزاء، والنجوم سبعة، والأيام سبعة، وأسنان الناس سبعة، أولها طفل إلى سبع، ثم صبي إلى أربع عشرة، ثم مُراهِقٌ، ثم شابٌ، ثم كهلٌ، ثم شيخٌ، ثم هَرِمٌ إلى منتهى العمر، والله تعالى أعلم بحكمته وشرعه، وقدره في تخصيص هذا العدد، هل هو لهذا المعنى أو لغيره ؟ ". اهـ
وفي الحديث المشهور عن أبي هريرة عن النبي أنه قال : "يغسل الإناءإذا ولغ فيه الكلب سبع مرات أولاهن أو أُخراهن بالتراب" اللفظ للترمذي.
تعلق بهذا الحديث أحكام غزيرة عزيزة، وتنازع أهل العلم في غسل الإناء ؛ أواجب هو أو مستحب ؟ كما اختلفوا في علة الغسل النجاسة أو التعبد ؟
يقول أبو الوليد ابن رشد الغرناطي الأندلسي في بداية المجتهد ونهاية المقتصد (1/29) : "فاختلف العلماء في تأويل هذه الآثار ووجه جمعها مع القياس المذكور ؛ فذهب مالك في الأمر بإراقة سؤر الكلب وغسل الإناء منه، إلى أن ذلك عبادة غير معللة، وأن الماء الذي يلغُ فيه ليس بنجس، ولم ير إراقة ما عدا الماء من الأشياء التي يلغ فيها الكلب في المشهور عنه، وذلك كما قلنا لمعارضة ذلك القياس له، ولأنه ظن أيضا أنه إن فهم منه أن الكلب نجس العين عارضه ظاهر الكتاب وهو قوله تعالى فكلوا مما أمسكن عليكم يريد أنه لو كان نجس العين لنجس الصيد بمماسته، وأيد هذا التأويل بما جاء في غسله من العدد والنجاسات ليس يشترط في غسلها العدد فقال : إن هذا الغسل إنما هو عبادة، ولم يعرج على سائر تلك الآثار لضعفها عنده"
العلماء – رحمهم الله – على تضلعهم في الفقه وخبرتهم باللغة وتصاريفها واطلاعهم على العلل والمناطات ونكت التأويل لم يجدوا غضاضة في الاستعانة بالموافقات العددية لإنهاض الحجة وتقويتها.
"قال القاضي [ابن رشد الحفيد] : وقد ذهب جدي رحمة الله عليه [ابن رشد الجد] في كتاب المقدمات إلى أن هذا الحديث معلل معقول المعنى ليس من سبب النجاسة، بل من سبب ما يتوقع أن يكون الكلب الذي ولغ في الإناء كلِبا، فيُخاف من ذلك السم. قال : ولذلك جاء هذا العدد الذي هو السبع في غسله، فإن هذا العدد قد استعمل في الشرع في مواضع كثيرة في العلاج والمداواة من الأمراض، وهذا الذي قال رحمه الله هو وجه حسن على طريقة المالكية، فإنه إذا قلنا إن ذلك الماء غير نجس، فالأولى أن يعطى علة في غسله من أن يقول إنه غير معلل ..." اهـ.
ولننظر أحاديث "السبعة" الطبية التي عناها ابن رشد رحمه الله من خلال كلام ابن حجر عن الحديث المذكور في الفتح : "... وأن الحكمة في الأمر بغسله من جهة الطب لأن الشارع اعتبر السبع في مواضع منه، كقوله : "صبوا علي من سبع قرب"، وقوله : "من تصبح بسبع تمرات عجوة" اهـ.
وفي الموطأ وغيره : "عن عثمان بن أبي العاص أنه أتى رسول الله ، قال عثمان وبي وجع قد كاد يهلكني، قال فقال رسول الله : امسحه بيمينك سبع مرات وقل أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد، قال : فقلت ذلك فأذهب الله ما كان بي، فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم".
قال في المنتقى : "وقدخص النبي هذا العدد في غير ما موضع".
..........................البحث كتبه الفاضل ابراهيم الجزائرى فى منتدى اهل الحديث جزاه الله خيرا
.................................................. .................................................. .يتبع باذن الله
الحمد لله حمدا كثيرا، قال عَزَّ مِن قائل : ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا، وصلى الله على محمد - عبد الله - أرسله مبشرا ونذيرا وسراجا منيرا، أما بعد :
فَلِكثرة ما يلقى في هذا المنتدى المبارك وغيره من أقوال صادّة، ومباحث جادّة إزاء الإعجاز العددي في القرآن الكريم، وتناسب الكلمات والآيات والسور عدديا ورقميا، كان لابد من وضع النقاط على الحروف، للإجابة على هذا التساؤل : هل لهذا العلم أصل في الشرع ؟ وهل له بذور عند السلف ؟
ففي تفسير القرطبي (1/92) : "روى وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال : من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ليجعل الله تعالى له بكل حرف منها جُنة من كل واحد. فالبسملة تسعة عشر حرفا على عدد ملائكة أهل النار الذين قال الله فيهم : عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ، وهم يقولون في كل أفعالهم : "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" فمن هنالك هي قوتهم، وببسم الله استضلعوا. قال ابن عطية : ونظير هذا قولهم في ليلة القدر : إنها سبع وعشرين، مراعاة للفظة "هي" من كلمات سورة إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ، ونظيره أيضا قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل : ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فإنها بضعة وثلاثون حرفا، فلذلك قال النبي الله صلى الله عليه وسلم : "لقد رأيت بضعا وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول". قال ابن عطية : وهذا من ملح التفسير وليس من متين العلم" اهـ.
يظهر من كلام القرطبي اعتماد الأعداد كنوع من أنواع التأويل، وختم بقول ابن عطية الذي يكاد يكون قاعدة في التعامل مع هذا العلم : هذا من ملح التفسير لا من متين العلم.
ومما قاله ابن حجر في حديث رفاعة بن رافع المتقدم في كلام القرطبي : "قيل الحكمة في اختصاص العدد المذكور من الملائكة بهذا الذكر أن عدد حروفه مطابق للعدد المذكور، فإن البضع مع الثلاث إلى التسع وعدد الذكر المذكور ثلاثة وثلاثون حرفا، ويعكر على هذا الزيادة المتقدمة في رواية رفاعة بن يحيى وهي قوله : "مباركاعليه كما يحب ربنا ويرضى" بناء على أن القصة واحدة. ويمكن أن يقال : المتبادر إليه هو الثناء الزائد على المعتاد وهو من قوله : "حمدا كثيرا إلخ" دون قوله : "مباركا عليه" فإنه كما تقدم للتأكيد وعدد ذلك سبعة وثلاثون حرفا، وأما ما وقع عند مسلم من حديث أنس : "لقد رأيت اثني عشر ملكا يبتدرونها" وفي حديث أبي أيوب عند الطبراني : "ثلاثة عشر" فهو مطابق لعدد الكلمات المذكورة في سياق رفاعة بن يحيى ولعددها أيضا في سياق حديث الباب لكن على اصطلاح النحاة، والله أعلم".
فابن حجر لم ينكر هذه الموافقات العددية، بل راح يجمع الأقوال ويجعل لها إمكانية حفاظا على المعنى المستفاد.
وفي مقدمة "أصول الدين" للإمام أبي منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي (429هـ) : "هذا كتاب ذكرنا فيه خمسة عشر أصلا من أصول الدين وشرحنا كل أصل منها بخمس عشْرة مسألة من مسائل العدل والتوحيد والوعد والوعيد ..."
ثم يقول بعد ذكر الأصول : "وقد جاءت في الشريعة أحكام مرتبة على خمسة عشر من العدد، وأجمعت الأمة على بعضها واختلفوا في بعضها، فمنها على اختلاف سن البلوغ لأنها عند الشافعي في الذكور والإناث خمس عشرة سنة بسنيِ العرب دون سني الروم والعجم، ومنها مدة أكثر الحيض عند الشافعي وفقهاء المدينة خمسة عشر يوما بلياليها، ومنها أول الطهر الفاصل بين الحيضتين فإنه عند أكثر الأئمة خمسة عشر يوما ... فأما على أصل أبي حنيفة وأتباعه فإن كلمات الأذان عندهم خمس عشرة، ومقدار مدة الإقامة التي توجب إتمام الصلاة خمسة عشر يوما ... وأجمعوا على وجوب خمسة عشر درهما في زكاة ستمائة درهم، وخمسة عشر دينارا في زكاة ستمائة دينار، فإذا بلغت الإبل السائمة ستمائة وجب فيها خمس عشرة بنت لبون ... وإذا بلغت البقر السائمة ستمائة وجب فيها خمس عشرة مُسنّة ... فإن كانت أربعمائة وخمسين بقرة وجب فيها خمسة عشر تبيعا أو تبيعة، وأجمعوا على أن الواجب في مُنَقِّلة الرجل الحر خمس عشرة من الإبل، وفي ثلاثة من أسنان الرجل الحر خمسة عشر بعيرا، وفي ستة من أسنان المرأة خمسة عشر بعيرا، وفي ثلاثِ أصابع المرأة الحرة خمسة عشر بعيرا، ومثل هذا كثير من أحكام الشريعة، ولأجلها لم يكره تقسيم قواعد الدين على خمسة عشر أصلا وتقسيم كل أصل منها خمس عشرة مسألة ..." اهـ.
فهذا ابن طاهر البغدادي يتكلف إظهار العدد خمسة عشر في صورة مقدسة حتى يسيغ لنفسه تقسيم الدين إلى خمسة عشر أصلا، والأصل إلى خمس عشرة مسألة ؛ يستعمل العدد كوسيلة منهجية، ويبرر ذلك شرعًا.
أما في مجال الفقه فكان العدد وسيلة للحفظ والتمكن من الفروع، شأنه شأن الشعر والقواعد، كما في قسم العبادات لقوانين ابن جزي الغرناطي (1/17) : "الفصل الثاني : في فرائض الوضوء وهي ستة ... الفصل الثالث : في سننه وهي سِت ... الفصل الرابع : في فضائل الوضوء ومكروهاته، أما فضائله فست ... وأما مكروهاته فست ...".
وفي باب الاغتسال (1/21) : "الفصل الثاني : في فرائضه وهي خمسة ... الفصل الثالث : في سننه وهي خمس ... الفصل الرابع : في فضائله وهي خمس ... ومكروهاته خمس ... فروع خمسة ...".
ثم في باب المياه (1/23) : "الفصل الأول : في أقسام المياه وهي خمسة ... الفصل الثاني : في الأسئار وفيها خمس مسائل ...".
هذه إحدى طرق التعلم والتعليم التي اشتهرت عند جملة من الفقهاء، تكلفوا المشاكلات العددية - مع ما في ذلك من تعسف - لكي يمكنوا المبتدئين من الحفظ والفهم مع ما يرون في ذلك التناسب من إعجاز نبوي، فتراهم - مثلا – جمعوا للإمام ابن حنبل اثنا عشر مسألة لكُلٍّ له فيها عشرة أقوال، في نسبتها إليه الضعيف والمرسل والمعضل والمضطرب والمنقطع وكل أنواع العلل في سبيل تحصيل السبق العددي ...
وفي مواضع متفرقة من كتاب الأمنية في إدراك النية للقرافي : "ثم إن هذه الإرادة متنوعة إلى العزم والهم والنية والشهوة والقصد والاختيار والقضاء والقدر والعناية والمشيئة فهي عشرة ألفاظ ... وأما كونه عليه السلام قال الأعمال بالنيات ولم يقل الأفعال ولا الإيثار ولا الإيجاد، فإن الفرق واقع بين أثر وأوجد وخلق وفعل وعمل وصنع وبرأ ودرأ وجعل وكسب فهذه عشرة ألفاظ ... وقد يكون للحكم الواحد عدة أسباب كإيجاب الوضوء بنحو عشرة أسباب ...وها أنا أبسط من موارد النية في نظر الشرع ما يمهد لك هذا البحث في عشرة أنواع... وللرفض في النية بعد وقوعها نظائر في الأشكال من جهة رفع الشيء بعد وقوعه، أحدها (وعدّ عشرة أشكال) ... ولنقتصر على هذا القدر من التنبيه ونشرع في الجواب عن تلك العشرة مع المسائل المذكورة في المسألة فنقول ..."
ربما حمل القرافي على نفسه في "تَعشير" كتابه قوله في ثنايا بحثه : "الإنسان يثاب على نية واحدة وعلى الفعل عشرا"، والكتاب وضع أصلا للإحاطة بقوله صلى الله عليه وسلم : "إنما الأعمال بالنيات"، فكأن إعجاز العدد تسلل إلى ذاته فصبغ كتابه - على صغر جرمه - بعشاريات.
فترى أن استعمال إعجاز العدد في التفسير والفقه والعقائد وغيرها من العلوم سنة جارية عند أهل العلم شرقا وغربا، لم يُر نكيرا على أحدهم ولا أُثر، إلا من قبيل ما يأتي :
- أنه من مُلَح التفسير ونكت التأويل لا من متين العلم ؛ فلا نبنِ عليه أحكاما كونية كنهاية العالم، أو سقوط إسرائيل ... ولا يستغرق وقتنا على حساب الواجب والأوجب ؛ فالعدل قبل الإحسان، والاقتصاد قبل الترف، والحاجة قبل الكمال.
- أنه من أدلة الاستئناس وليس بدليل مستقل، مثاله ما ذكر القرطبي عن ابن عطية في بيان ليلة القدر.
- أنه وسيلة منهجية لتحصيل غايات علمية – لا خرافية – كتسهيل الحفظ وتيسير الفهم أو تبرير تقسيم الكتاب وتبويبه أو لطابع جمالي بلاغي أو غير ذلك.
- عدم الغلو والإفراط في استخدام الأعداد والأرقام وتكلف المشاكلات، كما أن الغلو مذموم مطلقا لقوله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس : "إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين"، قال المناوي رحمه الله : "أي التشديد فيه ومجاوزة الحد، وتتبع الغوامض، والكشف عن علل وغوامض المتعبدات".
قال ابن القيم رحمه الله رحمة واسعة في سياق كلامه عن الحديث الذي رواه أبو داود في "سننه" عن مُجاهدٍ، عن سعد، قال : "مَرضتُ مرضاً، فأتَانِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعُودني، فَوَضَعَ يَدَه بين ثَديَيَّ حَتَّى وَجَدتُ بَرْدَها على فؤادي، وقال لي : إنَّكَ رجُلٌ مَفْؤُودٌ فأْتِ الحارَثَ بن كَلَدَةَ من ثَقِيفٍ، فإنَّه رجلٌ يتطبَّبُ، فلْيأْخُذْ سبعَ تَمَراتٍ من عَجْوَةِ المدينةِ، فلْيَجأْهُنَّ بِنَواهُنَّ، ثم لِيَلُدَّكَ بِهِنَّ".
قال (الطب النبوي، ص : 99-100) : وأمَّا خاصية السَّبْعِ، فإنها قد وقعت قدْراً وشرعاً، فخلق الله عَزَّ وَجَلَّ السَّمواتِ سبعاً، والأرضَينَ سبعاً، والأيام سبعاً، والإنسان كمل خلقه في سبعة أطوار، وشرع الله سبحانه لعباده الطواف سبعاً، والسعي بين الصفا والمروة سبعاً، ورمىَ الجمارِ سبعاً سبعاً، وتكبيراتِ العيدين سبعاً في الأولى ؛ وقال صلى الله عليه وسلم : "مُرُوهم بالصَّلاةِ لسَبْعٍ"، "وَإِذَا صَارَ للغُلامِ سَبْعُ سِنِينَ خُيِّرَ بين أبويه" في رواية، وفي رواية أخرى : "أبُوه أحقُّ به من أُمِّهِ"، وفي ثالثة : "أُمُّهُ أحَقُّ به"، وأمر النبيَّ صلى الله عليه وسلم في مرضه أن يُصَبَّ عليه من سبعِ قِرَبٍ، وسَخَّر الله الريحَ على قوم عادٍ سبع ليال، وَدَعَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُعينَه اللهُ على قومه بسبعٍ كسبعِ يوسف، ومَثَّلَ اللهُ سبحانه ما يُضاعِفُ به صَدَقَةَ المتصدِّقِ بِحَبَّةٍ أنبتت سبعَ سنابل في كلِّ سُنبلة مائة حَبَّةٍ، وَالسَّنابل التي رآها صاحبُ يوسفَ سبعاً، والسنين التي زرعوها دأْباً سبعاً، وتُضاعَفُ الصدقة إلى سبعمائة ضِعف إلى أضعاف كثيرة، ويدخل الجنََّة من هذه الأُمَّة بغير حساب سبعون ألفاً.
فلا ريب أنَّ لهذا العدد خاصيَّة ليست لغيره، والسبعة جمعت معانيَ العدد كله وخواصه، فإن العددَ شَفْعٌ ووَتْرٌ ؛ والشَفْع : أول وثان ؛ والوَتْر : كذلك، فهذه أربع مراتب : شفع أول، وثان ؛ ووتر أول، وثان، ولا تجتمع هذه المراتبُ في أقلِّ مِن سبعة، وهي عدد كامل جامع لمراتب العدد الأربعة، أعني الشَفْع والوَتْر، والأوائل والثواني، ونعني بالوَتْر الأول : الثلاثة، وبالثاني الخمسة ؛ وبالشَفْع الأول : الاثنين، وبالثاني : الأربعة، وللأطباء اعتناءٌ عظيم بالسبعة، ولا سِيَّما في البحارين.
وقد قال "بقراط" : كل شيء في هذا العالَم فهو مقدَّر على سبعة أجزاء، والنجوم سبعة، والأيام سبعة، وأسنان الناس سبعة، أولها طفل إلى سبع، ثم صبي إلى أربع عشرة، ثم مُراهِقٌ، ثم شابٌ، ثم كهلٌ، ثم شيخٌ، ثم هَرِمٌ إلى منتهى العمر، والله تعالى أعلم بحكمته وشرعه، وقدره في تخصيص هذا العدد، هل هو لهذا المعنى أو لغيره ؟ ". اهـ
وفي الحديث المشهور عن أبي هريرة عن النبي أنه قال : "يغسل الإناءإذا ولغ فيه الكلب سبع مرات أولاهن أو أُخراهن بالتراب" اللفظ للترمذي.
تعلق بهذا الحديث أحكام غزيرة عزيزة، وتنازع أهل العلم في غسل الإناء ؛ أواجب هو أو مستحب ؟ كما اختلفوا في علة الغسل النجاسة أو التعبد ؟
يقول أبو الوليد ابن رشد الغرناطي الأندلسي في بداية المجتهد ونهاية المقتصد (1/29) : "فاختلف العلماء في تأويل هذه الآثار ووجه جمعها مع القياس المذكور ؛ فذهب مالك في الأمر بإراقة سؤر الكلب وغسل الإناء منه، إلى أن ذلك عبادة غير معللة، وأن الماء الذي يلغُ فيه ليس بنجس، ولم ير إراقة ما عدا الماء من الأشياء التي يلغ فيها الكلب في المشهور عنه، وذلك كما قلنا لمعارضة ذلك القياس له، ولأنه ظن أيضا أنه إن فهم منه أن الكلب نجس العين عارضه ظاهر الكتاب وهو قوله تعالى فكلوا مما أمسكن عليكم يريد أنه لو كان نجس العين لنجس الصيد بمماسته، وأيد هذا التأويل بما جاء في غسله من العدد والنجاسات ليس يشترط في غسلها العدد فقال : إن هذا الغسل إنما هو عبادة، ولم يعرج على سائر تلك الآثار لضعفها عنده"
العلماء – رحمهم الله – على تضلعهم في الفقه وخبرتهم باللغة وتصاريفها واطلاعهم على العلل والمناطات ونكت التأويل لم يجدوا غضاضة في الاستعانة بالموافقات العددية لإنهاض الحجة وتقويتها.
"قال القاضي [ابن رشد الحفيد] : وقد ذهب جدي رحمة الله عليه [ابن رشد الجد] في كتاب المقدمات إلى أن هذا الحديث معلل معقول المعنى ليس من سبب النجاسة، بل من سبب ما يتوقع أن يكون الكلب الذي ولغ في الإناء كلِبا، فيُخاف من ذلك السم. قال : ولذلك جاء هذا العدد الذي هو السبع في غسله، فإن هذا العدد قد استعمل في الشرع في مواضع كثيرة في العلاج والمداواة من الأمراض، وهذا الذي قال رحمه الله هو وجه حسن على طريقة المالكية، فإنه إذا قلنا إن ذلك الماء غير نجس، فالأولى أن يعطى علة في غسله من أن يقول إنه غير معلل ..." اهـ.
ولننظر أحاديث "السبعة" الطبية التي عناها ابن رشد رحمه الله من خلال كلام ابن حجر عن الحديث المذكور في الفتح : "... وأن الحكمة في الأمر بغسله من جهة الطب لأن الشارع اعتبر السبع في مواضع منه، كقوله : "صبوا علي من سبع قرب"، وقوله : "من تصبح بسبع تمرات عجوة" اهـ.
وفي الموطأ وغيره : "عن عثمان بن أبي العاص أنه أتى رسول الله ، قال عثمان وبي وجع قد كاد يهلكني، قال فقال رسول الله : امسحه بيمينك سبع مرات وقل أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد، قال : فقلت ذلك فأذهب الله ما كان بي، فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم".
قال في المنتقى : "وقدخص النبي هذا العدد في غير ما موضع".
..........................البحث كتبه الفاضل ابراهيم الجزائرى فى منتدى اهل الحديث جزاه الله خيرا
.................................................. .................................................. .يتبع باذن الله