المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رد غيبة هارون الرشيد الخليفة المتهم باللهو والنساء


البدوي
06-18-2018, 06:39 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاه والسلام على سيدنا محمد واله وصحبه وبارك وسلم
لم يحظَ خليفة بعد الخلفاء الراشدين بالشهرة الواسعة وذيوع الذكر، مثلما حظي الخليفة العباسي هارون الرشيد، غير أن تلك الشهرة امتزج في نسجها الحقيقة مع الخيال، واختلطت الوقائع مع الأساطير، حتى كادت تختفي صورة الرشيد، وتضيع قسماتها وملامحها، وتظهر صورة أخرى له أقرب إلى اللهو واللعب والعبث والمجون، وأصبح من الواجب نفض الروايات الموضوعة، والأخبار المدسوسة حتى نستبين شخصية الرشيد كما هي في الواقع، لا كما تصورها الأوهام والأساطير.

ما قبل الخلافة

نشأ الرشيد في بيت ملك، وأُعد ليتولى المناصب القيادية في الخلافة، وعهد به أبوه الخليفة “المهدي بن جعفر المنصور” إلى من يقوم على أمره تهذيبًا وتعليمًا وتثقيفًا، وحسبك أن يكون من بين أساتذة الأمير الصغير “الكسائي”، والمفضل الضبي، وهما مَن هما علمًا ولغة وأدبًا، حتى إذا اشتد عوده واستقام أمره، ألقى به أبوه في ميادين الجهاد، وجعل حوله القادة الأكفاء، يتأسى بهم، ويتعلم من تجاربهم وخبراتهم، فخرج في عام (165 هـ= 781م) على رأس حملة عسكرية ضد الروم، وعاد محملاً بأكاليل النصر، فكوفئ على ذلك بأن اختاره أبوه وليًا ثانيًا للعهد بعد أخيه موسى الهادي.

وكانت الفترة التي سبقت خلافته يحوطه في أثنائها عدد من الشخصيات السياسية والعسكرية، من أمثال “يحيى بن خالد البرمكي”، و”الربيع بن يونس”، و”يزيد بن مزيد الشيباني” و”الحسن بن قحطبة الطائي”، و”يزيد بن أسيد السلمي”، وهذه الكوكبة من الأعلام كانت أركان دولته حين آلت إليه الخلافة، ونهضوا معه بدولته حتى بلغت ما بلغت من التألق والازدهار.

تولّيه الخلافة


تمت البيعة للرشيد بالخلافة في (14 من شهر ربيع الأول 170هـ= 14 من سبتمبر 786م)، بعد وفاة أخيه موسى الهادي، وبدأ عصر زاهر كان واسطة العقد في تاريخ الدولة العباسية التي دامت أكثر من خمسة قرون، ارتقت فيه العلوم، وسمت الفنون والآداب، وعمَّ الرخاء ربوع الدولة.

وكانت الدولة العباسية حين آلت خلافتها إليه مترامية الأطراف تمتد من وسط أسيا حتى المحيط الأطلنطي، مختلفة البيئات، متعددة العادات والتقاليد، معرضة لظهور الفتن والثورات، تحتاج إلى قيادة حكيمة وحازمة يفرض سلطانها الأمن والسلام، وتنهض سياستها بالبلاد، وكان الرشيد أهلاً لهذه المهمة الصعبة في وقت كانت فيه وسائل الاتصال شاقة، ومتابعة الأمور مجهدة، وساعده على إنجاز مهمته أنه أحاط نفسه بكبار القادة والرجال من ذوي القدرة والكفاءة، ويزداد إعجابك بالرشيد حين تعلم أنه أمسك بزمام هذه الدولة العظيمة وهو في نحو الخامسة والعشرين من عمره، فأخذ بيدها إلى ما أبهر الناس من مجدها وقوتها وازدهار حضارتها.

استقرار الدولة

ولم تكن الفترة التي قضاها الرشيد في خلافة الدولة العباسية هادئة ناعمة، وإنما كانت مليئة بجلائل الأعمال في داخل الدولة وخارجها، ولم يكن الرشيد بالمنصرف إلى اللهو واللعب المنشغل عن دولته العظيمة إلى المتع والملذات، وإنما كان “يحج سنة ويغزو كذلك سنة”.

واستهل الرشيد عهده بأن قلد “يحيى بن خالد البرمكي” الوزارة، وكان من أكفأ الرجال وأمهرهم، وفوّض إليه أمور دولته، فنهض بأعباء الدولة، وضاعف من ماليتها، وبلغت أموال الخراج الذروة، وكان أعلى ما عرفته الدولة الإسلامية من خراج، وقدره بعض المؤرخين بنحو 400 مليون درهم، وكان يدخل خزينة الدولة بعد أن تقضي جميع الأقاليم الإسلامية حاجتها.

وكانت هذه الأموال تحصل بطريقة شرعية، لا ظلم فيها ولا اعتداء على الحقوق، بعد أن وضع القاضي “أبو يوسف” نظامًا شاملاً للخراج باعتباره واحدًا من أهم موارد الدولة، يتفق مع مبادئ الشرع الحنيف، وذلك في كتابه الخراج.

وكان الرشيد حين تولى الخلافة يرغب في تخفيف بعض الأعباء المالية عن الرعية، وإقامة العدل، ورد المظالم، فوضع له “أبو يوسف” هذا الكتاب استجابة لرغبته، وكان لهذا الفائض المالي أثره في انتعاش الحياة الاقتصادية، وزيادة العمران، وازدهار العلوم، والفنون، وتمتع الناس بالرخاء والرفاهية.

وأُنفقت هذه الأموال في النهوض بالدولة، وتنافس كبار رجال الدولة في إقامة المشروعات كحفر الترع والأنهار، وبناء الحياض، وتشييد المساجد، وإقامة القصور، وتعبيد الطرق، وكان لبغداد نصيب وافر من العناية والاهتمام من قبل الخليفة الرشيد وكبار رجال دولته، حتى بلغت في عهده قمة مجدها وتألقها؛ فاتسع عمرانها، وزاد عدد سكانها حتى بلغ نحو مليون نسمة، وبُنيت فيها القصور الفخمة، والأبنية الرائعة التي امتدت على جانبي دجلة، وأصبحت بغداد من اتساعها كأنها مدن متلاصقة، وصارت أكبر مركز للتجارة في الشرق، حيث كانت تأتيها البضائع من كل مكان.

وغدت بغداد قبلة طلاب العلم من جميع البلاد، يرحلون إليها حيث كبار الفقهاء والمحدثين والقراء واللغويين، وكانت المساجد الجامعة تحتضن دروسهم وحلقاتهم العلمية التي كان كثير منها أشبه بالمدارس العليا، من حيث غزارة العلم، ودقة التخصص، وحرية الرأس والمناقشة، وثراء الجدل والحوار. كما جذبت المدينة الأطباء والمهندسين وسائر الصناع.

وكان الرشيد وكبار رجال دولته يقفون وراء هذه النهضة، يصلون أهل العلم والدين بالصلات الواسعة، ويبذلون لهم الأموال تشجيعًا لهم، وكان الرشيد نفسه يميل إلى أهل الأدب والفقه والعلم، ويتواضع لهم حتى إنه كان يصب الماء في مجالسه على أيديهم بعد الأكل.

وأنشأ الرشيد “بيت الحكمة” وزودها بأعداد كبيرة من الكتب والمؤلفات من مختلف بقاع الأرض كالهند وفارس والأناضول واليونان، وعهد إلى “يوحنا بن ماسوية” بالإشراف عليها، وكانت تضم غرفًا عديدة تمتد بينها أروقة طويلة، وخُصصت بعضها للكتب، وبعضها للمحاضرات، وبعضها الآخر للناسخين والمترجمين والمجلدين.

هارون الرشيد مجاهدًا

كانت شهرة هارون الرشيد قبل الخلافة تعود إلى حروبه وجهاده مع الروم، فلما ولي الخلافة استمرت الحروب بينهما، وأصبحت تقوم كل عام تقريبًا، حتى إنه اتخذ قلنسوة مكتوبًا عليها: غاز وحاج.

وقام الرشيد بتنظيم الثغور المطلة على بلاد الروم على نحو لم يعرف من قبل، وعمرها بالجند وزاد في تحصيناتها، وعزل الجزيرة وقنسرين عن الثغور، وجعلها منطقة واحدة، وجعل عاصمتها أنطاكية، وأطلق عليها العواصم، لتكون الخط الثاني للثغور الملاصقة للروم، ولأهميتها كان لا يولي عليها إلا كبار القادة أو أقرب الأقربين إليه، مثل “عبد الملك بن صالح” ابن عم أبي جعفر المنصور أو ابنه “المعتصم“.

وعمّر الرشيد بعض مدن الثغور، وأحاط كثيرًا منها بالقلاع والحصون والأسوار والأبواب الحديدية، مثل: قلطية، وسميساط، ومرعش، وكان الروم قد هدموها وأحرقوها فأعاد الرشيد بناءها، وأقام بها حامية كبيرة، وأنشأ الرشيد مدينة جديدة عرفت باسم “الهارونية” على الثغور.

وأعاد الرشيد إلى الأسطول الإسلامي نشاطه وحيويته، ليواصل ويدعم جهاده مع الروم ويسيطر على الملاحة في البحر المتوسط، وأقام دارًا لصناعة السفن، وفكّر في ربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط، وعاد المسلمون إلى غزو سواحل بحر الشام ومصر، ففتحوا بعض الجزر واتخذوها قاعدة لهم، مثلما كان الحال من قبل، فأعادوا فتح “رودس” سنة (175هـ= 791م)، وأغاروا على أقريطش “كريت” وقبرص سنة (190هـ= 806م).

واضطرت دولة الروم أمام ضربات الرشيد المتلاحقة إلى طلب الهدنة والمصالحة، فعقدت “إيريني” ملكة الروم صلحًا مع الرشيد، مقابل دفع الجزية السنوية له في سنة (181هـ= 797م)، وظلت المعاهدة سارية حتى نقضها إمبراطور الروم، الذي خلف إيريني في سنة (186هـ = 802م)، وكتب إلى هارون: “من نقفور ملك الروم إلى ملك العرب، أما بعد فإن الملكة إيريني التي كانت قبلي أقامتك مقام الأخ، فحملت إليك من أموالها، لكن ذاك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وافتد نفسك، وإلا فالحرب بيننا وبينك”.

فلما قرأ هارون هذه الرسالة ثارت ثائرته، وغضب غضبًا شديدًا، وكتب على ظهر رسالة الإمبراطور: “من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون أن تسمعه، والسلام”.

وخرج هارون بنفسه في (187 هـ= 803م)، حتى وصل “هرقلة” وهي مدينة بالقرب من القسطنطينية، واضطر نقفور إلى الصلح والموادعة، وحمل مال الجزية إلى الخليفة كما كانت تفعل “إيريني” من قبل، ولكنه نقض المعاهدة بعد عودة الرشيد، فعاد الرشيد إلى قتاله في عام (188هـ= 804م) وهزمه هزيمة منكرة، وقتل من جيشه أربعين ألفا، وجُرح نقفور نفسه، وقبل الموادعة، وفي العام التالي (189هـ=805م) حدث الفداء بين المسلمين والروم، ولم يبق مسلم في الأسر، فابتهج الناس لذلك.

غير أن أهم غزوات الرشيد ضد الروم كانت في سنة ( 190 هـ= 806م)، حين قاد جيشًا ضخماً عدته 135 ألف جندي ضد نقفور الذي هاجم حدود الدولة العباسية، فاستولى المسلمون على حصون كثيرة، كانت قد فقدت من أيام الدولة الأموية، مثل “طوانة” بثغر “المصيصة”، وحاصر “هرقلة” وضربها بالمنجنيق، حتى استسلمت، وعاد نقفور إلى طلب الهدنة، وخاطبه بأمير المؤمنين، ودفع الجزية عن نفسه وقادته وسائر أهل بلده، واتفق على ألا يعمر هرقلة مرة أخرى.

بلاط الرشيد محط أنظار العالم

ذاع صيت الرشيد وطبق الآفاق ذكره، وأرسلت بلاد الهند والصين وأوروبا رسلها إلى بلاطه تخطب وده، وتطلب صداقته، وكانت سفارة “شارلمان” ملك الفرنجة من أشهر تلك السفارات، وجاءت لتوثيق العلاقات بين الدولتين، وذلك في سنة ( 183هـ= 779م)؛ فأحسن الرشيد استقبال الوفد، وأرسل معهم عند عودتهم هدايا قيمة، كانت تتألف من حيوانات نادرة، منها فيل عظيم، اعتبر في أوروبا من الغرائب، وأقمشة فاخرة وعطور، وشمعدانات، وساعة كبيرة من البرونز المطلي بالذهب مصنوعة في بغداد، وحينما تدق ساعة الظهيرة، يخرج منها اثنا عشر فارسًا من اثنتي عشرة نافذة تغلق من خلفهم، وقد تملك العجب شارلمان وحاشيته من رؤية هذه الساعة العجيبة، وظنوها من أمور السحر.

الرشيد وأعمال الحج

نظم العباسيون طرق الوصول إلى الحجاز، فبنوا المنازل والقصور على طول الطريق إلى مكة، طلبًا لراحة الحجاج، وعُني الرشيد ببناء السرادقات وفرشها بالأثاث وزودها بأنواع الطعام والشراب، وبارته زوجته “زبيدة” في إقامة الأعمال التي تيسر على الحجيج حياتهم ومعيشتهم، فعملت على إيصال الماء إلى مكة من عين تبعد عن مكة بنحو ثلاثين ميلاً، وحددت معالم الطريق بالأميال، ليعرف الحجاج المسافات التي قطعوها، وحفرت على طولها الآبار والعيون.

وفاة الرشيد

كان الرشيد على غير ما تصوره بعض كتب الأدب، دينا محافظًا على التكاليف الشرعية، وصفه مؤرخوه أنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا، ويتصدق من ماله الخاص، ولا يتخلف عن الحج إلا إذا كان مشغولاً بالغزو والجهاد، وكان إذا حج صحبه الفقهاء والمحدثون.

وظل عهده مزاوجة بين جهاد وحج، حتى إذا جاء عام (192 هـ= 808م) فخرج إلى “خرسان” لإخماد بعض الفتن والثورات التي اشتعلت ضد الدولة، فلما بلغ مدينة “طوس” اشتدت به العلة، وتُوفي في (3 من جمادى الآخر 193هـ= 4 من إبريل 809م) بعد أن قضى في الخلافة أكثر من ثلاث وعشرين سنة، عدت العصر الذهبي للدولة العباسية.

* من مراجع الدراسة:

محمد جرير الطبري ـ تاريخ الرسل والملوك ـ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ـ دار المعارف ـ القاهرة 1979.

عبد المنعم ماجد ـ العصر العباسي الأول ـ مكتبة الأنجلو المصرية ـ القاهرة ـ 1979.

محمد الخضري ـ محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية (الدولة العباسية) ـ المكتبة التجارية الكبرى ـ القاهرة ـ 1959م.

فاروق عمر ـ الخليفة هارون الرشيد ـ وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد ـ 1989م.




حسن إبراهيم حسن ـ تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي (العصر العباسي الأول) مكتبة النهضة المصرية ـ القاهرة ـ 1948م.

بحث منقول

البدوي
06-18-2018, 07:50 AM
منقول ....
التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل

خلافة هارون الرشيد
من عظماء أمتنا الذين طأطأ الروم رؤوسهم له، وأحنوا هاماتهم رهبة منه، ذلكم هو الخليفة المجاهد هارون الرشيد، ذلك الرجل الذي حاول أعداء تاريخنا وأذنابهم أن يصوروه بصورة شارب الخمر الماجن، صاحب الجواري الحسان والليالي الحمراء، العسوف الظلوم، مع أنه كان من أعظم خلفاء الدولة العباسية جهادًا وغزوًا واهتمامًا بالعلم والعلماء، وبالرغم من هذا كله أشاعوا عنه الأكاذيب وأنه لا همَّ له سوى الجواري والخمر والسكر، ونسجوا في ذلك القصص الخرافية والحكايات الواهية.

قال عنه ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان: "كان هارون الرشيد من أنبل الخلفاء، وأحشم الملوك، ذا حج وجهاد وغزو وشجاعة ورأي".

نسب هارون الرشيد ومولده
هو أبو جعفر هارون بن المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي العباسي، كان مولده بالري حين كان أبوه أميرًا عليها وعلى خراسان في سنة ثمان وأربعين ومائة، وأمه أم ولد تسمى الخيزران وهي أم الهادي.

وقد اتسم هارون الرشيد منذ صغره بالشجاعة والقوة مما أَهله لقيادة الحملات في عهد أبيه، ولم يتجاوز العشرين بعد.

هارون الرشيد خليفة
تولى هارون الرشيد الخلافة بعهد معقود له بعد الهادي من أبيهما المهدي وذلك في ليلة السبت السادس عشر من ربيع الأول سنة سبعين ومائة بعد الهادي حتى جمادى الآخرة سنة أربع وتسعين بعد المائة الهجرية، وكان عمره آنذاك 25 سنة.، وكان يكنى بـ أبي موسى فتكنى بأبي جعفر.

العبادة في حياة هارون الرشيد
ذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: "وحكى بعض أصحابه أنه كان يصلي في كل يوم مئة ركعة إلى أن فارق الدنيا، إلا أن يعرض له علة، وكان يتصدق في كل يوم من صلب ماله بألف درهم، وكان إذا حج أحج معه مئة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج في كل سنة ثلاثمائة رجل بالنفقة السابغة والكسوة الظاهرة".

وقد أحصى المسعودي سنوات حجه بالناس فكانت: 170، 173، 174، 175، 176، 177، 178، 179، 181، 186، 188هـ .

وقال الذهبي في التاريخ: "سنة تسع وسبعين ومئة وفيها اعتمر الرشيد في رمضان ودام على إحرامه إلى أن حج ومشى من بيوته إلى عرفات".

وقال أبو الفدا في المختصر: "ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومئة وفيها حج الرشيد وأحرم من بغداد".

وقال الغزالي في فضائح الباطنية: وقد حُكي عن إبراهيم بن عبد الله الخراساني أنه قال: حججت مع أبي سنة حج الرشيد فإذا نحن بالرشيد وهو واقف حاسرٌ حافٍ على الحصباء، وقد رفع يديه وهو يرتعد ويبكي ويقول: يا رب أنت أنت وأنا أنا، أنا العوّاد إلى الذنب وأنت العوّاد إلى المغفرة، اغفر لي.

الموعظة في حياة هارون الرشيد
قال منصور بن عمار: ما رأيت أغزر دمعا عند الذكر من ثلاثة الفضيل بن عياض والرشيد وآخر.
وروى أن ابن السماك دخل على الرشيد يومًا فاستسقى فأتى بكوز فلما أخذه قال على رسلك يا أمير المؤمنين لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها قال بنصف ملكي قال اشرب هنأك الله تعالى فلما شربها قال أسألك لو منعت خروجها من بدنك بماذا كنت تشترى خروجها قال بجميع ملكي قال إن ملكا قيمته شربة ماء وبولة لجدير أن لا ينافس فيه فبكى هارون الرشيد بكاء شديدًا.

وقال ابن الجوزي قال الرشيد لشيبان عظني قال لأن تصحب من يخوفك حتى يدركك الأمن خير لك من أن تصحب من يؤمنك حتى يدركك الخوف فقال الرشيد فسر لي هذا قال من يقول لك أنت مسئول عن الرعية فاتق الله أنصح لك ممن يقول أنتم أهل بيت مغفور لكم وأنتم قرابة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم فبكى الرشيد حتى رحمه من حوله.

هارون الرشيد محب للسنة موقر للعلماء
كان الرشيد يحب العلماء ويعظم حرمات الدين ويبغض الجدال والكلام، وقال القاضي الفاضل في بعض رسائله ما أعلم أن لملك رحلة قط في طلب العلم إلا للرشيد فإنه رحل بولديه الأمين والمأمون لسماع الموطأ على مالك رحمه الله.

- ولما بلغه موت عبد الله ابن المبارك حزن عليه وجلس للعزاء فعزاه الأكابر.

- قال أبو معاوية الضرير: ما ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي الرشيد إلا قال صلى الله على سيدي ورويت له حديثه "وددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيى ثم أقتل " فبكى حتى انتحب .

- وعن خرزاذ العابد قال حدث أبو معاوية الرشيد بحديث احتج آدم وموسى فقال رجل شريف فأين لقيه فغضب الرشيد وقال النطع والسيف زنديق يطعن في الحديث فما زال أبو معاوية يسكنه ويقول بادرة منه يا أمير المؤمنين حتى سكن.

- وأخرج ابن عساكر عن ابن علية قال أخذ هارون الرشيد زنديقا فأمر بضرب عنقه فقال له الزنديق: لم تضرب عنقي قال له أريح العباد منك. قال فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلها ما فيها حرف نطق به قال فأين أنت يا عدو الله من أبى إسحاق الفزارى وعبد الله بن المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفا حرفا.

- وكان العلماء يبادلونه التقدير، روي عن الفضيل بن عياض أنه قال: ما من نفس تموت أشد علي موتا من أمير المؤمنين هارون ولوددت أن الله زاد من عمري في عمره، قال فكبر ذلك علينا فلما مات هارون وظهرت الفتن وكان من المأمون ما حمل الناس على القول بخلق القرآن قلنا الشيخ كان أعلم بما تكلم.

محنة البرامكة في عهد هارون الرشيد
لما جاءت الدعوة العباسية إلى خراسان، كان خالد بن برمك من أكبر دعاتها فاستوزره أبو العباس السفاح..فما زال خالد بن برمك يتقلب في المناصب بحسن السيرة وكان ممدوح الولاية حتى مات سنة 163هـ.

وكان ابنه يحيى بن خالد بن برمك من أرفع الناس أدبًا وفضلاً ونبلاً، تولى المناصب منذ عام 158هـ، وكان محبوبًا وهو الذي ربى هارون الرشيد، الذي بدوره كان لا يناديه إلا بـ (يا أبي)، ويحيى هو الذي مكّن هارون من الخلافة على غير رغبة الهادي.

فلما تولى الرشيد الخلافة أمّر يحيى وزارته فكانت وزارة تفويض وقال له: (قلدتك أمر الرعية وأخرجته من حقي إليك، فاحكم في ذلك بما ترى من الصواب، واستعمل من رأيت، وأعزل من رأيت..).

في سنة 184هـ بايع الرشيد لابنه عبد الله المأمون بولاية العهد بعد أخيه محمد الأمين وضمه إلى جعفر بن يحيى.

لقد كانت هذه الأسرة مقربة إلى الرشيد، تساعده في القيام بمهام الدولة خير قيام.

سماهم المؤرخون (زهرة الدولة العباسية كلها).. قادوا الجيوش، وسدوا الثغور، ودافعوا عن حياض الدولة.

ولكن لماذا أوقع بهم الرشيد، وما الذي غير قلبه عليهم؟!

الحقيقة في هذه المسألة غير أكيدة واختلف فيها المؤرخون، والأرجح أن هذه الأسرة الفاضلة قد بلغت من العز مبلغًا عظيمًا.. وهناك دائمًا الحاقدون وأصحاب القلوب المريضة الذين لا يحبون أن يروا الأمة مجتمعة إلى حين، ويغيظهم أن يصل غيرهم إلى تلك المنازل بجهد وبذل وتضحية وهم متفرجون، فيلجئون إلى الوشاية والوقيعة بحيلة ومكر.. لقد تغير قلب الرشيد تجاههم بفعل فاعل.

ولعل أرجح ما قيل في ذلك ما ذكره بعض المؤرخين أن سبب ذلك قيام جعفر بن يحيى بتهريب يحي بن عبد الله بن الحسن (أخو إدريس)[1] من سجن الرشيد سرًّا؛ لأنه تعاطف معه لأنه من نسل آل البيت. وقد اتهم البرامكة بالتشيع من قبل بعض المؤرخين، وبلغ الخبر الفضل بن الربيع[2] من عين كانت له حيث كان يتحين فرصة يؤلب بها الرشيد على البرامكة، فأخبر الرشيد فقال له الرشيد: (ما لك وهذا لا أم لك، فلعل ذلك عن أمري). فانكسر الفضل، فلما جاء جعفر (حبيب الرشيد) دعا بالغداء فأكلا وتحادثا إلى أن كان آخر ما دار بينهما أن قال الرشيد: ما فعل يحيى بن عبد الله؟

قال جعفر: بحاله يا أمير المؤمنين في الحبس والأكبال.

قال الرشيد: بحياتي؟

فأحجم جعفر وهجس في نفسه أنه قد علم بشيء من أمره.

فقال: لا وحياتك يا سيدي، ولكن أطلقته وعلمت أنه لا حياة به ولا مكروه عنده. فقال الرشيد: نعمّا فعلت ما عدوت ما كان في نفسي فلما خرج اتبعه بصره ثم قال: قتلني الله بسيف الهدى على عمل الضلالة إن لم أقتلك فكان من أمره ما كان.

كانت هذه الحادثة سببًا للوشاية بالبرامكة في أخص صفات الوزراء وهي الإخلاص لملوكهم، وذلك طعن مؤثر... ووقر في نفس الرشيد شيء من ذلك أن البرامكة يؤثرون مصلحة العلويين على مصلحته، وهذه التهمة أشد من تهمة الزندقة عند المهدي وانفرط عقد الثقة بين الخليفة الرشيد والبرامكة وهم أحباؤه وخلصاؤه، فتحمست أمامه عيوبهم وجعلته يستريب فيهم لأدنى شبهة.

حتى كانت سنة 187هـ وفيها كان مهلك البرامكة على يدي الرشيد قتل جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي بطريقة بشعة، ودمر ديارهم وذهب صغارهم وكبارهم.

ويبدو أن الرشيد قد ندم بعدها؛ فقد كان يقول: لعن الله من أغراني بالبرامكة، فما وجدت بعدهم لذة ولا رجاء، وددت والله أني شطرت نصف عمري وملكي، وأني تركتهم على حالهم.

خلافة هارون الرشيد
بين هارون الرشيد ونقفور كلب الروم
في سنة سبع وثمانين ومائة جاء للرشيد كتاب من ملك الروم نقفور بنقض الهدنة التي كانت عقدت بين المسلمين وبين الملكة ريني ملكة الروم وصورة الكتاب [من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيذق فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أضعافه إليها، وذلك لضعف النساء وحمقهن فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها وإلا فالسيف بيننا وبينك] فلما قرأ الرشيد الكتاب استشاط غضبا حتى ما تمكن أحد أن ينظر إلى وجهه فضلاً أن يخاطبه وتفرق جلساؤه من الخوف واستعجم الرأي على الوزير فدعا الرشيد بدواة وكتب على ظهر كتابه بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة والجواب ما تراه لا ما تسمعه ثم سار ليومه فلم يزل حتى نزل مدينة هرقل وكانت غزوة مشهورة وفتحا مبينا فطلب نقفور الموادعة والتزم بخراج يحمله كل سنة.

- وأسند الصولى عن يعقوب بن جعفر قال خرج الرشيد في السنة التي ولى الخلافة فيها حتى غزا أطراف الروم وانصرف في شعبان فحج بالناس آخر السنة وفرق بالحرمين مالا كثيرا وكان رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم فقال له إن هذا الأمر صائر إليك في هذا الشهر فاغز وحج ووسع على أهل الحرمين ففعل هذا كله.

دولة الأدارسة وأثرها على هارون الرشيد
وفي عهده قامت دولة الأدارسة سنة 172هـ بالمغرب ومؤسسها هو: إدريس بن عبد الله بن الحسن الذي فر من وقعة الفخ أيام الهادي فأقام دولته في بلاد المغرب الأقصى، وهي أول دولة للعلويين.. وكان هارون في بداية خلافته يحسن إلى العلويين ولكنه بعد هذه الحادثة خافهم، وعاقب من مال إليهم أشد العقوبات.

وفاة هارون الرشيد
وقد رأى رؤيا فيها موته وصدقها الواقع.. رأى كفًّا به تربة حمراء وقائل يقول: هذه تربة أمير المؤمنين، فلما سار يريد خراسان مَرّ بـ (طوس) فمرض بها، فقال لخادمه: ائتني بشيء من تربة هذه الأرض. فجاءه بتربة حمراء في يده، فلما رآها قال: والله هذه الكف التي رأيت، والتربة التي كانت فيها! فأمر بحفر قبره في حياته، وأن تُقرأ فيه ختمة للقرآن تامة، وحُمِل حتى نظر إلى قبره فجعل يقول: إلى هنا تصير يا ابن آدم! وبكى، ثم قبض بعد ثلاث ليال.

الرخاء في عهد هارون الرشيد
كان هارون الرشيد ينظر إلى السحابة المارة ويقول: (أمطري حيث شئت؛ فسيأتيني خراجك). وقد بلغت إيرادات الدولة العباسية في عهده (70 مليون و150 ألف دينار)، وقد زادت في عصر المأمون عن ذلك بكثير