البدوي
07-13-2018, 01:06 PM
تسويد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأذان والإقامة والتشهد نقلا عن دار الإفتاء المصرية
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد..
فإن سيدنا محمَّدًا صلى الله عليه وآله وسلم هو جوهرة النفوس، وتاج الرؤوس، وسيد ولد آدم أجمعين، ولا يدخل الإنسان دائرة الإيمان إلا بحبه وتعظيمه وتوقيره والشهادة برسالته؛ فهو أحد ركنَي الشهادة؛ إذ لا يقبل الله تعالى من أحد الوحدانية حتى يَشفَعَها بأنه صلى الله عليه وآله وسلم رسوله إلى العالمين.
وقد عَلَّمَنا الله تعالى الأدب مع سيدنا محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم حين خاطَب جميع النبيين بأسمائهم، أما هو فلم يخاطبه باسمه مجرَّدًا بل قال له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، وأمَرَنا بالأدب معه وتوقيره فقال: {إنَّا أَرْسَلناكَ شَاهِدًا ومُبَشِّرًا ونَذِيرًا * لِتُؤمِنُوا بِاللهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ وتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأَصِيلا} [الفتح: 8-9]، ومِن توقيره تَسوِيدُه عليه الصلاة والسلام كما قال السديُّ: "{وتوقروه}: أي تُسَوِّدُوه"، ذكره القرطبي في تفسيره(1 )، وقال قتادةُ: "أمَرَ الله بتسويده وتفخيمه وتشريفه وتعظيمه". أخرجه عبد بن حميد وابن جرير الطبري في التفسير(2 )، ونهانا عن التقديم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وحذَّرنا مِن رفع الصوت فوق صوته الشريف صلى الله عليه وآله وسلم أو الجهر له بالقول فقال تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ ورَسُولِهِ واتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَولِ كجَهْرِ بَعْضِكُمْ لبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أعْمَالُكُمْ وَأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أولَئِكَ الَّذِينَ امتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَّغفِرةٌ وأجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 1-3]. ونهانا أن نخاطبه صلى الله عليه وآله وسلم كما يُخاطب بعضُـنا بعضًا فقال سبحانه: {لا تَجعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، قال قتادة: "أَمَرَ الله عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُهَابَ نَبِيُّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ يُبَجَّلَ وَأَنْ يُعَظَّمَ وَأَنْ يُسَوَّدَ". أخرجه ابن أبي حاتم وغيره في التفسير(3 ). فكان حقًّا علينا أن نمتثل لأمر الله، وأن نتعلم مع حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأدبَ معه، ومن الأدب معه أن نُسَوِّدَه كلما ذُكِرَ، وأن نصلي عليه كلما ذُكِر، وأن لا نخاطبه باسمه مجرَّدًا عن الإجلال والتبجيل.
ولا فرق بين النداء والذِّكْر في ذلك؛ فكما يُشرَع استعمالُ الأدب والتوقير والتعظيم عند دعائه صلى الله عليه وآله وسلم يُشرَع كذلك عند ذكر اسمه صلى الله عليه وآله وسلم والصلاة عليه من غير فرق؛ لوجود العلة في كلا الأمرين، وهي النهي عن مساواته بغيره من المخلوقين، وذلك حاصل في الذكر كما هو حاصل في الخطاب والنداء، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.
تحرير محل النزاع في المسألة:
أجمعت الأمَّة على ثبوت السيادة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى عَلَمِيَّته في السيادة، قال الشرقاوي: "فلفظ "سيدنا" عَلَمٌ عليه صلى الله عليه وآله وسلم"(4 )، وأما ما شذَّ به بعضُ مَن تمسَّك بظاهر بعض الأحاديث متوهِّمين تعارضها مع هذا الحكم فلا يُعتَدُّ به، ولذلك اتفق العلماء على استحباب اقتران اسمه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم بالسيادة في غير الألفاظ الواردة المتعبَّد بها من قِبَل الشرع(5 ).
كما اتفقوا على عدم زيادتها في التلاوة والرواية (6 ):
أما التـلاوة: فإن القرآن كلام الله تعالى لا يجوز أن يزاد فيه ولا أن ينقص منه، ولا يقاس كلام الله تعالى على كلام خلقه(7 ).
وأما الروايـة: فإنها حكايةٌ للمَرْوِيِّ وشهادةٌ عليه؛ فلابُدَّ من نقلها كما هي، على أن بعض العلماء نصُّوا على أن هذا بحسب الوضع في الخط، وأما مِن حيث الأداء -حيث يُؤمَن اللبس وإيهامُ الزيادة- فالأَوْلَى أن لا تَعرَى عنها في المرْوِيِّ وغيره، كما قال الإمام العارف بالله أبو عبد الله الهاروشي المالكي وغيره (8 ).
أما بالنسبة للألفاظ الواردة المتعبَّد بها من قِبَل الشرع كالأذان والإقامة وتشهد الصلاة: فمذهب جمهور العلماء والمحققين من أتباع المذاهب الفقهية المعتمَدة وغيرهم أنه يُستحَبُّ اقترانُ الاسم الشريف بالسيادة أيضًا في الأذان والإقامة والصلاة؛ بناءً على أن الجمع بين الأدب والاتباع أوْلَى من الاقتصار على الاتباع؛ لأن الجمع أوْلَى من الترجيح، وفي الأدب اتِّباعٌ للأمر بتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم تُخَصَّ منه صلاةٌ ولا أذانٌ ولا إقامةٌ، وقد علَّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُمَّتَه الأدبَ معه حيث أخبر بالسيادة عن نفسه الشريفة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ» (9 )، وقال لمن خاطبوه بقولهم: "أنْتَ سَيِّدُنَا": «السَّيِّدُ اللهُ»، ثم قال: «قُولُوا قَوْلَكُمْ، وَلاَ يَسْتَجِرَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ» رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما (10 )، فأقرَّ ذِكْر السيادة ونبَّه على صحة المعنى بالتحذير من إهمال الفرق بين سيادة المخلوق والسيادة المطلَقة للخالق سبحانه، قال الإمام الخَطّابي: "قَوْلُه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِه وَسَلَّمَ «السَّيِّدُ اللهُ» أَيْ السُّؤْدُد كُلّه حَقِيقَة للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّ الْخَلْق كُلّهمْ عَبِيد الله، وَإِنَّمَا مَنَعَهُمْ أَنْ يَدْعُوهُ سَيِّدًا مَعَ قَوْله «أَنَا سَيِّد وَلَد آدَم» لأَنَّهُمْ قَوْمٌ حَدِيث عَهْد بِالإِسْلامِ، وَكَانُوا يَحْسِبُونَ أَنَّ السِّيَادَة بِالنُّبُوَّةِ كَهِيَ بِأَسْبَابِ الدُّنْيَا وَكَانَ لَهُمْ رُؤَسَاء يُعَظِّمُونَهُمْ وَيَنْقَادُونَ لأَمْرِهِمْ، وَقَوْله «قُولُوا بِقَوْلِكُمْ» أَيْ قُولُوا بِقَوْلِ أَهْل دِينكُمْ وَمِلَّتكُمْ وَادْعُونِي نَبِيًّا وَرَسُولاً كَمَا سَمَّانِي الله تَعَالَى فِي كِتَابه وَلا تُسَمُّونِي سَيِّدًا كَمَا تُسَمُّونَ رُؤَسَاءَكُمْ وَعُظَمَاءَكُمْ وَلا تَجْعَلُونِي مِثْلهمْ؛ فَإِنِّي لَسْت كَأَحَدِهِمْ؛ إِذْ كَانُوا لَيْسُوا دُونكُمْ فِي أَسْبَاب الدُّنْيَا وَأَنَا أَسودكُمْ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَة فَسَمُّونِي نَبِيًّا وَرَسُولاً" (11 ).
وخُوطِب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بـ"يا سَيِّدِي" فأقرَّ ذلك ولم ينكره؛ فعن سَهْلِ بن حُنَيْفٍ رضي الله عنه قال: مَرَرْنَا بِسَيْلٍ، فَدَخَلْتُ فَاغْتَسَلْتُ فِيهِ، فَخَرَجْتُ مَحْمُومًا، فَنُمِيَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: «مُرُوا أَبَا ثَابِتٍ يَتَعَوَّذ»، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي! وَالرُّقَى صَالِحَةٌ؟ فَقَالَ: «لاَ رُقْيَةَ إِلاَّ فِي نَفْسٍ أَوْ حُمَةٍ أَوْ لَدْغَةٍ» رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي في "عمل اليوم والليلة" والحاكم في "المستدرك" وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (12 )، وفي إقراره صلى الله عليه وآله وسلم لذلك إِذْنٌ منه في خطابه وذِكْرِه بذلك وأنه أمر مشروع، ولا فرْق في ذلك بين أن يكون داخل الصلاة أو خارجها، بل ذلك في الصلاة أوْلَى؛ لأن الشرع راعى الأدب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة بصورة مؤكَّدة؛ فشرع للمصَلِّي مخاطبة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم داخلَ الصلاة وجعلها تبطل بمخاطبة غيره، وأوجب الله تعالى على المصلِّي أن يجيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خاطبه أثناءها ولا تبطل بذلك صلاتُه؛ مبالغةً في الأدب معه صلى الله عليه وآله وسلم ومراعاةً لحرمته وجنابه الشريف، وهذا جارٍ أيضًا في الأذان والإقامة فتخصيصُهما من ذلك لا دليل عليه بل هو على عمومه. بل أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأمر بتسويده عند ذكر اسمه الشريف حيث راجع مَن ذكَرَه مجرَّدًا عن السيادة؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: صَعِد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «مَنْ أَنَا؟» قلنا: رسول الله، قال: «نَعَمْ، وَلَكِنْ مَنْ أَنَا؟» قلنا: أنت محمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، قال: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلا فَخْرَ» رواه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (13 ).
وإذا قيل بالترجيح بينهما فالأدب مقدَّم على الاتباع، كما ظهر ذلك في موقف سيدنا علي رضي الله تعالى عنه في صلح الحديبية حيث رفض أن يمحو كلمة "رسول الله" عندما أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمحوها (14 )؛ تقديمًا للأدب على الاتباع، وظهر ذلك أيضًا في تقهقر سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الصلاة بعد أمْرِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له بأن يبقَى مكانه وقال له بعد الصلاة: "ما كانَ لابنِ أبي قُحافةَ أنْ يُصَلِّيَ بينَ يَدَي رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّم" (15 )، وكذلك فعل سيدنا عثمان رضي الله عنه حيث أخَّر الطوافَ لـمَّا دخل مكَّة في قضية صلح الحديبية مع علمه بوجوب الطواف على مَن دخل مكة؛ أدبًا معه عليه الصلاة والسلام أن يطوف قبله وقال: "ما كُنتُ لأَفعَلَ حتَّى يَطُوفَ بِه رسولُ اللهِ"(16 )، وأقره النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك وجَعَلَه مِن مفاخره ومناقبه؛ فإنه لَمَّا قال الناس: "هنيئًا لأبي عبد الله! يطوف بالبيت آمنًا"، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَوْ مَكَثَ كَذَا وَكَذَا سَنَةً مَا طَافَ حَتَّى أَطُوفَ» رواه ابن أبي شيبة في "المصنَّف" وابن أبي حاتم في "التفسير" (17 ).
وهذا هو المعتمد عند الشافعية -كما نصَّ عليه العلامة المحقق الجلال المحلي [ت864هـ]، والشيخان: ابن حجر الهيتمي [ت973هـ] والشهاب الرملي [ت957هـ]-، وعند الحنفية -كما أفتى به العلامة القحفازي [ت745هـ]، واعتمده البرهان الحلبي [ت956هـ]، والإمام علاء الدين الحَصْكَفي [ت1088هـ]، والعلامة الطحطاوي [ت1231هـ]-، وعند المالكية -كما قال الإمام العارف بالله تعالى أبو الفتح ابن عطاء الله السكندري [ت709هـ] وجزم به القاضي ابن عبد السلام [ت749هـ] قاضي الجماعة في تونس، وشيخ الإسلام أبو القاسم البرزلي [ت844هـ]، والشهاب الحِمْيَرِي القُسَنْطيني الجزائري [ت878هـ]، واعتمده الإمام الحطَّاب [ت954هـ]، والإمام الأُبِّي [ت827هـ] وغيرهم-، ونقله الإمام أبو بكر بن المنذر النيسابوري [ت319هـ] عن الإمام الحافظ إسحاق بن راهويه [ت238هـ] في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الجنازة، ورجحه العلاّمة محمد بن علي الشوكاني [ت1250هـ].
وفيما يلي بعض النصوص والفتاوى الفقهية في ذلك والتي صدرت عن الفقهاء والمحدِّثين من أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم وزخرت بها كتبهم ومصنَّفاتُهم، من أنه يُندَب الإتيان بلفظ "سيدنا" قبل اسمه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم حتى في العبادات كالصلاة والأذان والإقامة وأن ذِكْر السيادة خير مِن تركها.
فمن أهل الحديث:
الإمام الحافظ المجتهد أمير المؤمنين في الحديث إسحاق بن راهويه الحنظلي [ت238هـ]؛ نقل عنه الإمام الحافظ أبو بكر بن المنذر النيسابوري [ت319هـ] استحباب تسويد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الجنازة، وذلك في كتابه "الأوسط في السُّنَن والإجماع والاختلاف" فقال:
"وقال إسحاق: إذا كبَّر الثانية صلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأحب الصلاة إلينا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما وصفه ابن مسعود؛ لأنه أجمل ما جاء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن يقول: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلاتَكَ وَبَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتَكَ عَلَى إِمَامِ الْمُتَّقِينَ، وَسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَخَاتَمِ النَّبِيِّينّ، مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، إِمَامِ الْخَيْرِ وَقَائِدِ الْخَيْرِ وَرَسُولِ الرَّحْمَةِ، اللَّهُمَّ ابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا، يَغْبِطُهُ الأوَّلُونَ وَالآخِرُونَ، اللَّهُمَّ صَلِّ علَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمِّد كَمَا صَلَّيْتَ علَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكَ علَى مُحَمَّدٍ وَعلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ علَى إِبْرَاهِيمَ وَعلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" (18 ) اهـ، وسيأتي الكلام في إثبات صحة هذا الأثر.
وهذا النقل يدل على أن ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسيادة في الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم داخلَ الصلاة وخارجَها كان أمْرًا معهودًا عند السلف الصالح، ولو كان في ذلك شيء من البدعة أو مخالفة الهدي النبوي لسارعوا إلى إنكاره، وعلى ذلك فدعوى بدعية تسويد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة وغيرها هي في الحقيقة ضَرْبٌ من التنطُّع المذموم المنافي لمنهج السلف الصالح رضوان الله تعالى عنهم.
ومما يُروَى عن التابعين من تسويد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأذكار المأثورة خارجَ الصلاة ما رواه عبد الرزاق في "المصنَّف" عن أيوب ابن أبي تميمة السختياني وجابر الجعفي قالا: "من قال عند الإقامة: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، أعطِ سيدنا محمدًا الوسيلة، وارفع له الدرجات، حقت له الشفاعة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم" (19 ).
ومن السادة الحنفية:
الإمام العلامة نجم الدين علي بن داود القحفازي الحنفي [ت745هـ] شيخ أهل دمشق في عصره؛ حيث ذكر الحافظ السخاوي في كتابه "القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع" أنه كان يفتي بذلك ( 20).
والعلامة علاء الدين الحَصْكَفي [ت1088هـ] حيث يقول في "الدر المختار شرح تنوير الأبصار": "ونُدِبَ السيادةُ؛ لأن زيادة الإخبار بالواقع عَينُ سلوك الأدب؛ فهو أفضل مِن تركه، ذكره الرملي الشافعي وغيره، وما نُقِل "لا تُسَوِّدُونِي في الصَّلاةِ" فكذِبٌ، وقولُهم "لا تُسَيِّدُوني" بالياء لحنٌ أيضًا، والصواب بالواو" (21 ) اهـ.
قال العلامة محمد أمين ابن عابدين الحنفي [ت1252هـ] في حاشيته "رد المحتار على الدر المختار": "وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِنَا؛ لِمَا مَرَّ مِنْ قَوْلِ الإِمَامِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ زَادَ فِي تَشَهُّدِهِ أَوْ نَقَصَ فِيهِ كَانَ مَكْرُوهًا.
قُلْت: فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ الصَّلاةَ زَائِدَةٌ عَلَى التَّشَهُّدِ لَيْسَتْ مِنْهُ، نَعَمْ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا عَدَمُ ذِكْرِهَا فِي "وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ" وَأَنَّهُ يَأتِي بِهَا مَعَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ" (22 ) اهـ.
وقال العلامة الطحطاوي الحنفي [ت1231هـ] في حاشيته على "الدر المختار" أيضًا: "(قوله: ونُدِب) ظاهرُ الشرحِ طَلَبُها في نبيِّنا وأبيه الخليل عليهما الصلاة والسلام؛ لاشتراكهما فيها، ولا يَخفَى أن هذه الزيادةَ مستحبةٌ كما قال الحلبي.
(وقوله: نقله الرملي) فيه أنه ليس من أهل المذهب، اللهم إلا أن يُقال إن مثل هذا لا يُختَلَفُ فيه" (23 ) اهـ.
ومن السادة المالكية:
الإمام العارف بالله تعالى أبو الفتح ابن عطاء الله السكندري [ت709هـ]، حيث يقول في "مفتاح الفلاح ومصباح الأرواح": "وإيَّاك أن تترك لفظ السيادة؛ ففيها سِرٌّ يظهر لِمَن لازم هذه العبادة" (24 )اهـ.
وقال الإمام أبو عبد الله الأُبِّيُّ المالكي [ت827هـ] في "إكمال إكمال المُعلِم لفوائد كتاب مسلم": "وما يُستَعمَل من لفظ "السيد" و"المَولَى" حَسَنٌ وإن لم يَرِدْ، والمستَنَد فيه ما صح من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ». واتفق أن طالبًا يُدعَى بابن غمرين قال: لا يُزاد في الصلاة "على سيدنا"، قال: لأنه لم يَرِد، وإنما يُقال "على محمَّد"، فنقمها عليه الطلبة، وبلغ الأمر إلى القاضي ابن عبد السلام، فأرسل وراءه الأعوان، فتخفَّى مدةً ولم يخرج، حتى شفع فيه حاجب الخليفة حينئذ فخلَّى عنه، وكأنه رأى أن تغيُّبه تلك المدة هي عقوبته" ( 25) اهـ.
وكذا قال العلامة أبو عبد الله محمد بن يوسف السنوسي الحسيني المالكي [ت895هـ] أيضًا في شرحه على صحيح مسلم المسمَّى "مكمِّل إكمال الإكمال" (26 ).
وقال الإمام الوَنْشَرِيسي [ت914هـ] في "المعيار المُعْرِب":
"وسُئِل سيدي قاسم العقباني [ت854هـ] رحمه الله: هل يجوز أن يُقال: (اللهم صلِّ على سيدنا محمَّد) أم لا؟
فأجاب: الصلاة على نبينا سيدنا محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم من أفضل العبادات، ومن معنى الوارد في الذكر؛ لأن ذِكْرَه صلى الله عليه وآله وسلم يقارنه أبدًا في القلب وفي اللسان ذِكْرُ مولانا جل جلالُه، وأفضل الأذكار ما جيءَ به على الوجه الذي وَصَفَه صاحب الشريعة، ولكن ذِكْر نبيِّنا صلى الله عليه وآله وسلم بالسيادة وما أشبهها من الصفات التي تدل على التعزير والتوقير ليس بممنوع، بل هو زيادة عبادة وإيمان، لاسيما بعد ثبوت «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ»؛ إذ ذكرُه صلى الله عليه وآله وسلم بـ"سيدنا" بعد ورود هذا الخبر إيمان بهذا الخبر، وكلُّ تصديق بما جاء به المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فهو إيمان وعبادة، والله الموفق بفضله. انتهى..
وأجاب سيدي عبد الله العبدوسي [ت849هـ] عن مثل هذه فقال: ينبغي أن لا يزاد فيها ولا يُنقص منها، فإن زاد فيها "سيدنا" و"مولانا" فجائز؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أتَى بها تعليمًا لهم حين قالوا له: إن الله سبحانه أمرنا أن نصلِّي عليك، فكيف نصلِّي عليك؟ وأما الصلاة المرتجَلة التي لم تَرِد بلفظه فتزيد فيها "سيدنا ومولانا محمد"؛ إذ هو سيدنا ومولانا صلى الله عليه وآله وسلم، وقد نصَّ على هذه المسألة بعينها الإمام الباخلي في "شرح الحزب الصغير" للقطب سيدنا ومولانا أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه، وبالله التوفيق" (27 ) اهـ.
وقال الإمام الحطَّاب المالكي [ت954هـ] في أول شرحه "مواهب الجليل": بعد أن نقل ما سبق عن الأُبِّي: "وذكر البرزلي عن بعضهم أنه أنكر أن يقولها -يعني لفظ "السيد"- أحدٌ، ثم قال: وهذا إن صح عنه غاية الجهل، قال: واختار شيخ شيوخنا المجد اللغوي صاحب القاموس ترك ذلك في الصلاة؛ اتِّباعًا لِلَفظ الحديث، والإتيانَ به في غير الصلاة، وذكر الحافظ السخاوي في "القول البديع" كلامَه، وذكر عن ابن مفلح الحنبلي نحو ذلك، وذَكَرَ عن الشَّيخِ عِزِّ الدِّينِ ابنِ عبدِ السَّلامِ أَنَّ الإتيانَ بها في الصَّلاةِ يَنبَنِي على الخِلافِ: هل الأَولَى امتِثالُ الأَمرِ أو سُلُوكُ الأَدَبِ؟ قُلت: واَلذي يَظهَرُ لي وأَفعَلُه في الصَّلاةِ وغيرِها الإتيانُ بلَفظِ "السَّيِّدِ"، واَللهُ أَعلَمُ" (28 ) اهـ.
قال الإمام أبو عبد الله محمد العربي بن أحمد بردله [ت1134هـ] في "نوازله" تعقيبًا على كلام الإمام الحطّاب: "والذي اختاره الشيخ الحطَّاب هو ما عليه الناس" (29 ) اهـ.
وقال الإمام محمد المهدي الفاسي المالكي [ت1052هـ] في "مطالع المسرّات بشرح دلائل الخيرات": "الصحيح جواز الإتيان بلفظ "السيد" و"المولَى" ونحوهما مما يقتضي التشريف والتوقير والتعظيم في الصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإيثار ذلك على تركه، ويُقال في الصلاة وغيرها إلا حيث تُعُبِّد بلفظ ما رُوِيَ فيُقتَصَر على ما تُعُبِّد به، أو في الروايـة -يعني في حكايتها- فيؤتَى بها على وجهها، وقال البرزلي: ولا خلاف أن كل ما يقتضي التشريف والتوقير والتعظيم في حقه عليه الصلاة والسلام أنه يقال بألفاظ مختلفة، حتى بلّغها ابن العربي مائة فأكثر" (30 ) اهـ.
وقال العلامة النفراوي [ت1126هـ] في "الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني": "وَعَبَّرَ بِـ"سَيِّدِنَا" إشَارَةً إلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلاةِ وَغَيْرِهَا" ( 31) اهـ.
وقال الإمام أبو العباس أحمد بن قاسم البوني [ت1139هـ] في كتابه في آداب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ومنها: إذا مرَّ في صلاته عليه صلى الله عليه وآله وسلم على اسم "محمَّد" صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الكيفيات مجرَّدًا عن السيادة فليزد لفظ السيادة بلسانه فقط؛ فذلك هو الأدب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأما الكتابة فإنها تابعة للرواية من غير زيادة ولا نقصان، اتفق الصوفية على ذلك في القرن الثالث، ووافقهم العلماء عليه، وقالوا: نختص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك دون سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيحين: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ»، ومن أسمائه صلى الله عليه وآله وسلم: سيِّد... وسيادتُه صلى الله عليه وآله وسلم أجلى وأظهر وأوضح من أن يُستَدَلَّ عليها؛ فهو سيد العالم بأسره من غير تقييد ولا تخصيص وفي الدنيا وفي الآخرة، وإنما قال في الحديث: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» لظهور انفراده بالسؤدد والشفاعة فيه عن غيره حين يلجأ إليه الناس في ذلك فلا يجدون سواه، وجميع الخلائق مجتمعون أوَّلُهم وآخرُهم وإِنْسُهُم وجِنُّهُم وبينهم الأنبياء والمرسلون، وتلك الدارُ دارُ الدوام والبقاء، فهي المعتبَرة، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم معلومًا بالسيادة نسبًا وطبعًا وخلقًا وأدبًا إلى غير ذلك من المكارم والمفاخر قبل ظهوره بالنبوة، يعرف ذلك مَن اعتنى بالسير وتعرف أحواله من الصغر إلى الكبر صلوات الله عليه وسلامه... ثم قال: وفي عمدة المريد للشيخ إبراهيم اللقاني على الجوهرة له قال أستاذنا: ولا خلاف في استعمال "السيد" فيه عليه الصلاة والسلام واستحبابه في غير الصلاة، وإنما الخلاف في استعماله في الصلاة: فكَرِهَه قومٌ، وأجازه آخرون، وقضية صنيع ابن عبد السلام استحبابه، وسُئِل عن ذلك المحقق المحلي، فأجاب بأن الأدب مع من ذُكِر مطلوبٌ - يعني أنه مستحَبٌّ - وأشار إلى أن ذلك يخَرَّج على قاعدتين فيما إذا تعارضتا فأيتهما تقدم: امتثال الأمر؛ عملاً بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» (32 )، والثانية سلوك الأدب؛ حيث تأخَّرَ عن المحراب أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم له "مَكَانَك" فتأخَّر، وهذه الطريقة هي الراجحة، وبها أخَذَ ابن عبد السلام وابن جماعة الشافعيان وابن عبد السلام المالكي، وحديث "لا تسودوني في الصلاة" لا أصل له كما قاله الجلال، قال بعضهم: ولو ورد أمكن تأويله" (33 ) اهـ.
وقال الشيخ أبو العباس أحمد بن صالح النفجروتي الدرعي المالكي [ت1147هـ] في كتابه "تنبيه الغافل عما ظنه عالم": "وانظر هل يجوز لأحد أن يزيد لفظ "السيادة" قبل "محمد" أو لا؟ فيقتصر على لفظ "محمَّد" خاصة كما ورد في الحديث... وكنت أزيدها حيث صليت عليه وأستحي أن أذكر اسم "محمد" خاصة دون لفظ السيادة وأستثقله كثيرًا، مع أني لم أَرَ مِن ذِكْرها كذلك من الأئمة المقتدَى بهم، ثم خفت بعد ذلك هل يُقبَل مني ذلك لكوني أزيد ما لم يذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا ذَكَرَهُ أحدٌ من الأئمة، حتى وقفت على كلام الإمام البرزلي رحمه الله في المسائل التي أنكرها أبو عمر الرجراجي على أهل تونس، فذكر منها هذه المسألة، ونصه (في المسألة السابعة): ومما سُمِع أيضًا منه أنه قال -وأمر به-: لا يقُل أحدكم: "اللَّهُمَّ صلِّ علَى سيِّدنا محمَّد"؛ لأنه ما ورد في الحديث إلا "اللَّهُمَّ صلِّ علَى محمَّد"، وهذه غاية الجهل؛ لأنه خرج منه صلى الله عليه وآله وسلم مخرج التعليم للصلاة عليه لا لقصد لفظه، بل لَمَّا افتُقِر إلى معرفة منزلته قال: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ» (34 )، وقوله:«آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ لِوَائِي، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ» (35 )، ولا خلاف أن كل ما يقتضي التشريف والتوقير والتعظيم في حقِّه عليه الصلاة والسلام أنه يقال بألفاظ مختلفة حتى بلغها ابن العربي مائة فأكثر، وقد وقعت في قضاء ابن عبد السلام، وهو أن رجلا ينتحل الطلب فقال: من قال "سيدنا محمَّد" في الصلاة بطلت صلاتُه، فرُفعَت قضيتُه للقاضي ابن عبد السلام فوقع الطلب عليه، واستخفى ستة أشهر حتى شفع فيه للقاضي فعفا عنه، وموجبه الجهل بحقائق الأشياء" اهـ كلام الإمام البرزلي.
ثم رأيتُ أيضًا لبعض الشُّرَّاح: "ويجوز أن يُقال: صلى الله على سيدنا؛ لأنه سيد الأولين والآخرين"اهـ، ثم وقفت أيضًا على كلام الإمام ابن عطاء الله رضي الله عنه في كتابه المسمَّى "مفتاح الفلاح" ونَصُّه لما تكلم ذكر الصلاة التامة قال: "وإيَّاك أن تترك لفظ "السيادة"؛ ففيها سِرٌّ يظهر لمن لازم هذه العبادة"اهـ، فزال عني -والحمد لله- ما كنت أخاف منه" (36 ) اهـ.
وقال السملالي [ت1152هـ] في "نوازله": "الأَوْلى والمؤكَّد ذكر السيادة مطلقًا، والله أعلم، نَصَّ على ذلك الشيخ ابن عطاء الله والإمام الحطَّاب، وأَلَّف القُسَنْطِيني على ذلك، وغيرهم ممن لا يُحصَى كثرةً، وهو المعَّول عليه" (37 ) اهـ.
وقال العارف بالله تعالى الإمام عبد الله الخياط الهاروشي [ت1175هـ] في كتابه "الفتح المبين والدر الثمين في الصلاة على سيد المرسلين": "والذي جرى عليه عمل الأئمة زيادة السيادة في غير الوارد وتركها فيما ورد؛ اتباعًا للفظ فرارًا من الزيادة فيه؛ لكونه خرج مخرج التعليم، ووقوفًا عند ما حُدَّ لهم، وعلى هذا درج صاحب "دلائل الخيرات" رضي الله عنه وغيره؛ فإنما أثبت اللفظ الوارد من غير زيادة السيادة وزادها في غير الوارد، لكن هذا بحسب الوضع في الخط، وأما من حيث الأداء فالأَوْلَى أن لا تَعرَى عنها في الوارد وغيره. سُئِل شيخنا العياشي حفظه الله عن زيادة السيادة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: السيادة عبادة، قلتُ: وهو بَيِّنٌ؛ لأن المصلي إنما يقصد بصلاتِه تعظيمَه صلى الله عليه وآله وسلم، فلا معنَى حينئذٍ لترك التسويد؛ إذ هو عين التعظيم، وفي "الحِكَم": "ما الشأن وجودُ الطلب، وإنما الشأن أن تُرزَق حسن الأدب {لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9]" (38 ) اهـ.
قال: "وإنما لم يتلفَّظ صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ السيادة حين تعليمهم كيفيةَ الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم لكراهيته الفخر؛ ولهذا قال: "أنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ولا فَخرَ"، وأما نحـن فيجب علينا تعظيمه وتوقيره؛ ولهذا نهانا الله تعالى أن نناديه صلى الله عليه وآله وسلم باسمه فقال: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]" (39 ) اهـ.
وقال العلمي في "نوازله": "وسئل بعضهم عن مسألة الذكر وهو الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشر مرات بعد الصلاة مثلا يختم العشرة بلا إله إلا الله سيدنا محمَّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحكم مَن قال لا يُقال سيدنا إلا قول محمَّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فأجاب: أن نبينا وحبيبنا وسيدنا محمَّدًا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجب توقيره وتعظيمه، ولا ينبغي للإنسان أن يذكر اسمه مجرَّدًا عن ذكر السيادة والرسالة أو غير ذلك مما يوجب تعظيمه وتوقيره، وقد نهى الله تعالى في كتابه عن ذكره ودعائه باسمه مجرَّدًا فقال جل من قائل: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، قال العلماء: يعني لا تنادوه وتدعوه "يا فلان" باسمه كما يُنادى أحدكم لبعضكم بعضًا، وحكم هذا القائل بإسقاط السيادة المقرونة باسمه صلى الله عليه وآله وسلم الأدب الشديد، وقد وقع مثل مقالة هذا الجاهل في زمن الشيخ ابن عبد السلام مِن بعض الطلبة فقال كما قال هذا أنه لا يزاد في الصلاة عليه ذكر سيدنا أو نحو ذلك، فأمر ابن عبد السلام بسجنه وأن يُؤَدَّب، ففر ذلك الطالب واختفى حتى شفع فيه أمير تونس، فرأى ابن عبد السلام أن فراره وغيبته والشفاعة فيه أدبٌ له، وكتب موسى الخطيب.
قال العلمي: وفي حواشي شيخ شيوخنا أبي زيد سيدي عبد الرحمن الفاسي [ت1096هـ] على "دلائل الخيرات" ما نصه:
قال الأُبِّي في "شرح مسلم": ما يُستعمَل في هذا المقام من لفظ "المَولَى" و"السيد" حسـن... إلخ ما سبق عنه، ثم قـال: وذكر السخاوي عن عز الدين بن عبد السلام أن الإتيان بها في الصلاة ينبني على الخلاف: هل الأَولَى امتثال الأمر أو سلوك الأدب؟ ويشهد لسلوك الأدب والله أعلم امتناع علي كرم الله وجهه من محو اسمه صلى الله عليه وآله وسلم مع أمره له بذلك في عقد صلح الحديبية، على أنه لم يَرِد صريح الأمر بتركه في الصلاة، وقد سُئِل السيوطي عن حديث "لا تسيدوني في الصلاة" فأجاب بأنه لم يَرِد ذلك، وقد نهى الله تعالى أن يُنادَى النبي صلى الله عليه وآله وسلم باسمه كما يُنادي بعضنا بعضًا" (40 ) اهـ.
وقال العارف أحمد بن محمَّد ابن عجيبة المالكي [ت1224هـ] في "حاشيته على الجامع الصغير": "والأحسن -من جهة الأدب- التسويد في التعبد بالصلاة عليه مطلقًا، والله أعلم" (41 ) اهـ.
وقال الشيخ محمد الطيب ابن كيران المالكي [ت1227هـ] في شرحه على ألفية العراقي في السيرة: "الثامن: استعمال لفظ "السيد" و"المولَى" في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم حسنٌ وإن لم يَرِد؛ لورود «أَنَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ» (42 ) «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ» ( 43)، وطلب ابن عبد السلام تأديب مَن زعم بطلان صلاة مَن ذَكَرَ ذلك في الصلاة، فتغيَّب حتى شفع فيه، فكأنه رأى أن تغيبه تلك المدة عقوبة له، واختار المجد اللغوي صاحب القاموس ترك السيادة في الصلاة والإتيان بها في غيرها، وقال العز بن عبد السلام: ينبني ذلك على أن الأَوْلَى امتثال الأمر أو سلوك الأدب؟ قال الحطَّاب: والذي يظهر لي وأفعله الإتيان بالسيادة في الصلاة وغيرها"اهـ.
وذكر مثله في شرحه على "توحيد المرشد المعين"، فكتب عليه مُحَشِّيه الإمام الشريف محمد بن قاسم القادري [ت1331هـ]: "(قوله: حسن) أي وأما خبر "لا تسيدوني في صلاتكم" فهو موضوع كما قال السيوطي.
(قوله: واختار المجد... إلخ) ليس بصواب.
(قوله: أو سلوك الأدب) هو الصواب.
(قوله: الذي يظهر لي وأفعله الإتيان بالسيادة في الصلاة وغيرها) هذا هو الصواب عند أهل الظاهر والباطن" (44 ) اهـ.
وقال العلامة بدر الدين الحمومي [ت1266هـ] في "شرح المرشد المعين": "مسألة: استعمال لفظ "المَولَى" و"السيد" في الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم حسنٌ وإن لم يَرِد في الصلاة عليه؛ لورود «أَنَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ» رواه الحاكم وصححه، و«أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ»..." (45 ) اهـ.
وقال الإمام الحافظ محمد بن جعفر الكتاني [ت1345هـ] في جواب له في هذه المسألة: "اعلم أن ذكر الاسم الشريف بالسيادة ونحوها مما يدل على التعظيم والتشريف أمر متفق على طلبه واستحبابه في الجملة امتثالا لقوله تعالى: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، وقوله: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] وقُرئ "تعززوه" من العز بزايين، وتخلُّقًا بأخلاق القرآن في {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ}، واقتداءً بسيدنا أبي بكر رضي الله عنه في تأخره عن الإمامة أدبًا معه عليه الصلاة والسلام مع أمره له بإتمام الصلاة، وسيدنا عثمان رضي الله عنه حين أخر الطواف لَمَّا دخل مكة في قضية صلح الحديبية مع علمه بوجوبه على مَن دخلها أدبًا معه عليه الصلاة والسلام أن يطوف قبله وقال: "ما كنتُ لأفْعَلَ حتَّى يطوف رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم" (46 )، وسيدنا علي رضي الله عنه حيث امتنع من محو اسمه صلى الله عليه وآله وسلم مع أمره له بذلك عند صلح الحديبية أيضًا وقال: "والله لا أمحوك أبدًا" وفي رواية: "ما أنا بالذي أمحاه"، وعملا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ» «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ» «مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ» إلى غير ذلك، وقول ابن مسعود رضي الله عنه: "إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَأَحْسِنُوا الصَّلاَةَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ لَعَلَّ ذَلِكَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ، وقُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلاَتَكَ وَرَحْمَتَكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ..." إلخ (47 )، إلى غير ذلك، ونصوا على أن القائل بإسقاط السيادة من اسمه الشريف يُؤَدَّب الأدبَ الشديد، وممَّن نَصَّ على ذلك: العلمي في "نوازله" من جوابٍ لبعضهم، ويؤيده قضية ابن عبد السلام مع الطالب الذي قال لا يزاد في الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم ذِكْر "سيدنا"، حيث أمَرَ بسجنه وأن يؤدب، فاختفى حتى شُفِع فيه، فخلَّى سبيله لكونه رأى أن فراره وتغيبه والشفاعة فيه أدب له، وقد ذكر قضيتَه الأُبِّيُّ في "إكمال الإكمال" وصاحب "المعيار" وغيرُ واحد" (48 ) اهـ.
إلى غير ذلك من النقول المتكاثرة عن السادة المالكية في هذا المعنى والتي نقلها وغيرَها العلاّمة الحافظُ السيِّد أحمد بن الصِّدِّيق الغماري في مصنَّفه المفرد لهذه المسألة.
ومن السادة الشافعية:
قال العـلامة المحقق الجـلال المحلي [ت864هـ]: "الأدب مع مَن ذُكِرَ -يعني النبيَّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم - مطلوبٌ شرعًا بذكر السيد؛ ففي حديث الصحيحين: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكم»(49 ) أي: سعد بن معاذ، وسيادتُه بالعِلْم والدين، وقول المصلِّي "اللهم صَلِّ على سيدنا محمَّد" فيه الإتيان بما أُمِرنا به وزيادةُ الإخبار بالواقع الذي هو أدب، فهو أفضل مِن تركه فيما يظهر من الحديث السابق، وإن تردد في أفضليته الشيخ جمال الدين الإسنوي، وذَكَر أنَّ في حفظه قديمًا أنَّ الشيخ ابن عبد السلام بناه على أنَّ الأفضل سلوك الأدب أو امتثال الأمر، وأما حديث "لا تُسَيِّدُوني في الصلاة" فباطل لا أصل له كما قاله بعض متأخري الحفاظ" (50 ) اهـ.
وقال الإمام المحدِّث برهان الدين الناجي الشافعي [ت900هـ] في كتابه "كنز الراغبين العُفاة في الرمز إلى المولد المحمدي والوفاة": "وأمَّا النقل عن سيد الورَى: "لا تُسَوِّدُوني في الصلاة" فكَذِبٌ مُوَلَّدٌ مفترَى، والعوامُّ مع إيرادهم له يلحنون فيه أيضًا فيقولون: "لا تُسَيِّدُوني" بالياء، وإنما اللفظة بالواو" (51 ) اهـ.
وسُئِلَ الحافظ الجلال السيوطي [ت911هـ] عن هذا الحديث -كما في "الحاوي للفتاوي"- فأجاب بأنه لم يَرِد ذلك (52 ).
وقال الإمام الشهاب أحمد الرملي [ت957هـ] في حاشيته على "شرح الروض" لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري:
"قال ابن ظهيرة: الأفضل الإتيان بلفظ السيادة كما صرح به جمع، وبه أفتى الجلال المحلي جازمًا به، قال: لأن فيه الإتيان بما أُمِرْنا به وزيادة الإخبار بالواقع الذي هو أدب؛ فهو أفضل مِن تركه، وإن تردد في أفضليته الإسنوي"اهـ وحديث "لا تسيدوني في الصلاة" باطل لا أصل له كما قاله بعض متأخري الحفاظ.
وقوله (الأفضل الإتيان بلفظ السيادة) أشار -يعني الشهاب الرملي- إلى تصحيحه" (53 ) اهـ.
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي [ت973هـ] في "الدر المنضود في الصلاة والسلام على صاحب المقام المحمود": "في زيادة "سيدنا" قبل "محمد" خلاف، فأما في الصلاة فقال المجد اللغوي: الظاهر أنه لا يقال؛ اقتصارًا على الوارد، وقال الإسنوي: في حفظي أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام بناه على أن الأفضل امتثال الأمر أو سلوك الأدب، فعلى الثاني يستحب اهـ، وهذا هو الذي مِلتُ إليه في "شرح الإرشاد" وغيره؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لَمَّا جاء وأبو بكر رضي الله تعالى عنه يَؤُمُّ الناس، فتأخَّر، ثم أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يثبت مكانه، فلم يَمتثل، ثم سأله بعد الفراغ من ذلك، فأبدى له أنه إِنَّما فعله تأدُّبًا بقوله: "ما كان ينبغي لابن أَبِي قحافة أن يتقدَّم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم" (54 )، فأقره صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك، وهذا فيه دليلٌ أيُّ دليلٍ على أن سلوك الأدب أَولى من امتثال الأمر الذي عُلِم من الآمر عدمُ الجزم بقضيته، ثم رأيتُ عن ابن تيمية أنه أفتى بتركها وأطال فيه، وأن بعض الشافعية والحنفية ردوا عليه وأطالوا في التشنيع عليه وهو حقيق بذلك، وورد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا وموقوفًا -وهو أصح-: "أَحسِنُوا الصَّلاةَ على نَبِيِّكم" (55 )، وذكر الكيفية وقال فيها: "على سَيِّدِ المُرسَلِين"، وهو شاملٌ للصلاة وخارجها..." ثم نقل كلام الجلال المحلي السابق، ثم قال: "ووقع لبعضِ مَن كَتَبَ على الحاوِي أنه قال إن زيادة "سيدنا" مبطلة للصلاة، وهو غلط واضح فاجتنبه"(56 ) اهـ.
وقال أيضًا في "شرح الإرشاد": "ولا بأس بزيادة (سيدنا) قبل (محمد)، والنهي عنه لا أصل له" (57 ) اهـ.
وقال العلامة ابن قاسم العبادي [ت994هـ] في حاشيته على "تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي ما نصه: "واعتمد الجلال المحلي في غير شرحه أن الأفضل زيادتها وأطال في ذلك، وقال: إن حديث "لا تسيدوني في الصلاة" باطل" (58 ) اهـ.
و قال الشرواني في حاشيته على "تحفة المحتاج" أيضًا:
"عِبَارَةُ شَرْحِ بَافَضْلٍ: وَلا بَأْسَ بِزِيَادَةِ (سَيِّدِنَا) قَبْلَ (مُحَمَّدٍ) اهـ، وَقَالَ "المُغْنِي": ظَاهِرُ كَلامِهِمْ اعْتِمَادُ عَدَمِ اسْتِحْبَابِهَا اهـ، وَتَقَدَّمَ عَنْ شَيْخِنَا أَنَّ الْمُعْتَمَدَ طَلَبُ زِيَادَةِ السِّيَادَةِ، وَعِبَارَةُ الْكُرْدِيِّ: وَاعْتَمَدَ "النِّهَايَةُ" اسْتِحْبَابَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ اعْتَمَدَهُ الزِّيَادِيُّ وَالحَلَبِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَفِي "الإِيعَابِ": الأَوْلَى سُلُوكُ الأَدَبِ، أَيْ: فَيَأْتِي بِـ(سَيِّدِنَا)، وَهُوَ مُتَّجِهٌ اهـ.
قَالَ ع ش: (قَوْلُ م ر لأَنَّ فِيهِ الإِتْيَانَ إلَخ) يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا سَنُّ الإِتْيَانِ بِلَفْظِ السِّيَادَةِ في الأَذَانِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ؛ لأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِ السِّيَادَةِ حَيْثُ ذُكِرَ" (59 ) اهـ.
وقال الإمام زين الدين الملِّيباري [ت987هـ] في "فتح المعين لشرح قرة العين بمهمات الدين": "ولا بأس بزيادة (سيدنا) قبل (محمد)" (60 ) اهـ.
قال محشّيه العلامة السيد البكري أبو بكر عثمان بن محمد شطا الدمياطي [ت1302هـ] في "إعانة الطالبين على حلِّ ألفاظ فتح المعين": "بل هي الأَوْلَى كما تقدَّم -يعني عند قوله في التحيات: "وأشهد أن محمَّدًا رسول الله"؛ فإنه قال: "الأَوْلَى ذِكْر السيادة؛ لأن الأفضل سلوك الأدب، وحديث "لا تسودوني في صلاتكم" باطل-"(61 ) اهـ.
وقال العلامة شمس الدين محمد الرملي [ت1004هـ] في "نهاية المحتاج": "والأفضل الإتيان بلفظ السيادة، كما قاله ابن ظهيرة وصرَّح به جَمعٌ، وبه أفتى الشارح -يعني الجلال المحلي-؛ لأن فيه الإتيان بما أُمِرنا به وزيادةَ الإخبارِ بالواقع الذي هو أدب، فهو أفضل مِنْ تَرْكِه، وإن تردد في أفضليته الإسنوي، وأما حديث "لا تسيدوني في الصلاة" فباطل لا أصل له كما قال بعض متأخري الحفاظ، وقول الطوسي إنها مبطلة غلط" (62 ) اهـ.
قال العلامة نور الدين علي الشَّبْرَامَلِّسِي [ت1087هـ] في حاشيته عليه: "(قولُه: لأَنَّ فيه الإتيانَ... إلَخ) يُؤخَذُ مِن هذا سَنُّ الإتيانِ بلَفظِ السِّيادةِ في الأَذانِ، وهو ظاهِرٌ؛ لأَنَّ المَقصُودَ تَعظِيمُه صلى اللهُ عليهِ وآله وسلم بوَصفِ السِّيادَةِ حيثُ ذُكِرَ.
لا يُقالُ: لم يَرِد وَصفُهُ بالسِّيادةِ في الأَذانِ؛ لأَنّا نَقُولُ: كذلكَ هنا، وإنَّما طُلِبَ وَصفَه بها للتَّشرِيفِ، وهو يَقتَضِي العُمُومَ في جَمِيعِ المَواضِعِ التي يُذكَرُ فيها اسمُه علَيه الصَّلاةُ والسَّلامُ" (63 ) اهـ.
وقال العلاّمة محمد بن علي ابن علان البكري الصّدِّيقي [ت1057هـ] في "شرح الأذكار للإمام النووي": "خاتمة: قال الإسنوي: اشتهر زيادة (سيدنا) قبل (محمَّد)، وفي كونه أفضل نظر، وفي حفظي أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام بناه على أن الأفضل سلوك الأدب أو امتثال الأمر؛ فعلى الأوَّل يُستَحب دون الثاني اهـ، وبِتَأَمُّل تَأَخُّر الصدِّيق رضي الله عنه لَمّا ائتم به صلى الله عليه وآله وسلم مع قوله "مكانك"، وكذا إقراره على ذلك، وامتناع علي رضي الله عنه في وقعة الحديبية من محوه لاسمه صلى الله عليه وآله سلم مع أَمْرِه له بِمَحْوِه فقال "والله لا أمحوه"، يُعلَم أن الأَولى سلوك الأدب، وهو متجه، وإن قال بعضهم الأشبه الاتباع، ولا يُعرَف إسنادُ ذلك إلى أحد من السلف اهـ.
وإنكاره صلى الله عليه وآله وسلم على مَن خاطبه بذلك إنما هو لكونه ضم إليه ألفاظًا من ألفاظ الجاهلية وتحياتهم كما يُعرف ذلك بمراجعة الحديث، وقد صحَّ حديث «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ»، وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا وموقوفًا -وهو أصح- "أحسنوا الصلاة على نبيكم" وذكر كيفيةً منها: "اللَّهُمَّ صَلِّ علَى سيِّدِ المرْسَلِينَ"، وحديث "لا تسيدوني في الصلاة" موضوع، وقول بعض الشافعية: "إن ذلك مُبطِل للصلاة" غلطٌ فلا يُقال ينبغي مراعاتُه، وفي شرح مسلم للأُبِّي: اتفق أن طالبًا قال: لا يُزاد في الصلاة (سيدنا)؛ لأنه لم يَرِد، وإنما يُقال (اللهم صل على محمد)، فنقمها عليه الطلبة، وبلغ الأمر إلى القاضي ابن عبد السلام، فأرسل وراءه الأعوان، فاختفى مدة حتى شفع فيه حاجب الخليفة، فخلي عنه، وكأنه رأى أن تغيُّبه تلك المدة عقوبته اهـ، قال بعض الأئمة المحققين من المتأخرين: قول المصلي (اللهم صل على سيدنا محمد) فيه الإتيان بما أُمِرنا به وزيادة الإخبار بالواقع الذي هو أدبٌ؛ فهو أفضل من تركه فيما يظهر من الحديث السابق، وإن تردد في أفضليته الإسنوي اهـ، وبه يُرَدُّ ما وقع لصاحب القاموس ميلاً إلى ما أطال به ابن تيمية وغيره في ذلك" (64 ) اهـ.
وقال الإمام أحمد بن محمد السحيمي القلعاوي الشافعي [ت1178هـ] في شرحه على شرح عبد السلام على "جوهرة التوحيد": "فإن قلت: ما الحكمة في ذكر السيد في هذا الحديث وعدم ذكره في حديث الشيخين حين قالت الصحابة: كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ»؟
أُجيب: بأن الأول مقام إخباره عن مرتبته ليُعتَقَدَ أنه كذلك، ولتعلم أمَّتُه أنه أول من يفتح باب الشفاعة فيأتوه ولا يذهبوا إلى نبي بعد نبي كغيرهم من الأمم، فكل مَن بلغته هذه السيادة لا يتعب يوم القيامة في ذهابه إلى الأنبياء لطلب الشفاعة منهم، وما ذهب إليهم إلا مَن لم تبلغه، والثاني مقام تعليم الصلاة عليه، وليس مِن شرطه ذكر السيد، وإن كان الأفضل ذكره مراعاةً للأدب، ولا يقال امتثال الأمر أفضل من الأدب؛ لأنا نقول: في الأدب امتثال الأمر وزيادة، والظاهر أن الأفضل ذكره في غير نبينا من الأنبياء أيضًا، وحديث "لا تسودوني في صلاتكم" باطل، وقولهم "لا تسيدوني" بالياء لحن، والصواب بالواو" (65 ) اهـ.
وقال العلامة محمد بن عبد الله الجرداني الدِّمياطي [ت1331هـ] في "فتح العلام بشرح مرشد الأنام" عند قوله في التشهد: (وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله): "يُغتفَر زيادة (سيدنا) قبل (محمَّد)، بل هو الأفضل هنا وفي الصلاة عليه الآتية سلوكًا للأدب؛ خلافًا لمن قال: الأولى ترك السيادة؛ اقتصارًا على الوارد، والمعتمد الأول، وأما حديث "لا تسودوني في الصلاة" بالواو لا بالياء فباطل كما في الباجوري" (66 ) اهـ.
وقال شيخ الإسلام البرهان إبراهيم الباجوري الشافعي [ت1277هـ] في "حاشيته على شرح ابن قاسم على متن أبي شجاع": "الأََولَى ذِكرُ السيادة؛ لأن الأفضل سلوك الأدب، خلافًا لمَن قال: الأَوْلَى ترك السيادة؛ اقتصارًا على الوارد، والمعتمَد الأول, وحديث "لا تُسَوِّدُوني في صلاتِكم" بالواو لا بالياء باطل" (67 ) اهـ.
وكُتُبُ الشافعية ممتلئة بأفضلية السيادة في الأذان والإقامة والتشهد- على تركها.
ومن غير أصحاب المذاهب الفقهية:
يقول العلامة محمد بن علي الشوكاني [ت1250هـ] في "نيل الأوطار": "وقد رُوِيَ عن ابن عبد السلام أنه جعله من باب سلوك الأدب، وهو مبني على أن سلوك طريق الأدب أحب مِن الامتثال، ويؤيده حديث أبي بكر حين أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يثبت مكانه فلم يمتثل وقال: "ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدَي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"، وكذلك امتناع علي عن محو اسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مِن الصحيفة في صلح الحديبية بعد أن أمره بذلك، وقال: "لا أمحو اسمَك أبدًا"، وكلا الحديثين في الصحيح؛ فتقريره صلى الله عليه وآله وسلم لهما على الامتناع مِن امتثال الأمر تأدُّبًا مُشعِرٌ بأَولَوِيَّتِه"(68 )اهـ.
بينما يرى بعض العلماء أولوية الاقتصار في الألفاظ المتعبَّد بها على ما ورد؛ اتباعًا للّفظ الوارد وفِرارًا مِن الزيادة فيه، واحتجوا بعدم ورود ذلك عن الصحابة والتابعين والسلف الصالحين، وأن ذلك لو كان راجحًا لورد عنهم. ومن هؤلاء العلماء ابن تيمية [ت728هـ]، وابن مفلح [ت763هـ] الحنبليان، والمجد الفيروزآبادي [ت817هـ] صاحب "القاموس"، والإمام الأذرعي وقال: إنه الأشبه(69 )، ورجحه الحافظ أبو الفضل ابن حجر العسقلاني [ت852هـ](70 )، وادَّعى بعض المتأخرين بِدعِيَّتَها وحرمتها كالسهسواني الهندي [ت1326هـ](71 )، والشيخ جمال الدين القاسمي [ت1332هـ](72 ).
ومن الفقهاء المتأخرين مَن مال إلى أفضلية ذِكْرها في التشهد وتَرْكها في الأذان من غير تحريم كما هو رأي الشريف أحمد بن المأمون البُلغيثي [ت1348هـ] (73 )، والحافظ محمد بن جعفر الكتاني من المالكية رحمهما الله تعالى (74 ).
قال الحافظ ابن حجر في فتوى له جوابًا لسؤالٍ عن حكم زيادة السيادة عند ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة وخارجها: "لو كان ذلك راجحًا لجاء عن الصحابة ثم عن التابعين، ولم نقف في شيء من الآثار عن أحد من الصحابة ولا التابعين لهم قال ذلك، مع كثرة ما ورد عنهم من ذلك... نعم ورد في حديث ابن مسعود أنه كان يقول في صلاته على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "اللَّهُمَّ اجْعَلَ فَضَائِلَ صَلَواتِكَ ورَحْمَتِكَ وَبَرَكَاتِكَ علَّى سَيِّدِ المرْسَلِينَ... الحديث أخرجه ابن ماجه، ولكن إسناده ضعيف" اهـ نقلاً عن صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للألباني (75 ).
والخلاف إنما هو في الأفضلية لا في الجواز؛ فإن الجميع متفقون على جواز كلا الأمرين، وأما مَن ادَّعى من المتأخرين تحريم زيادة السيادة فهو غير مسبوق في دعواه هذه ومحجوجٌ بأن العلماء إنما اختلفوا في الأفضلية مع قطعهم بغلط من ادَّعى بطلان الصلاة بذكرها؛ وهذا المعنى واضح في عبارة الإمام الأذرعي حيث يقول في كتابه "التوسط": "الأشبه الاتباع" (76 )، وفي عبارة الحافظ ابن حجر حيث يقول في أول فتواه جوابًا لسؤالٍ عن حكم زيادة السيادة في الصلاة وخارجها: "نعم؛ اتباع الألفاظ المأثورة أرجح" اهـ، ومن المقرر في اللغة أن "أفعل" التفضيل يفيد الاشتراك بمادته والتفاضل بصيغته، أي: أنه يقتضي اشتراك المفضَّل والمفضَّل عليه في أصل الحدَث وزيادةَ المفضَّل على المفضَّل عليه فيه.
وأجاب الجمهور عمَّا احتجَّ به مَنْ رَجَّح ترك السيادة بأجوبة منها:
1- أن الأدلة الشرعية الدالَّة على وجوب تعظـيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوقيره، وتسـويده، والنهي عن مخاطبته، أو ذكره كما يخاطب أو يذكر بعضـنا بعضًا جاءت عـامة لا مخصِّصَ لها، فيُشرَع امتثالُها في كل موضعٍ جرى فيه ذكرُه صلى الله عليه وآله وسلم؛ حملا للمطلَق على المقيَّد، ولم يرد في الشرع ما يُخرِج الأذانَ أو الإقامةَ أو الصلاةَ من ذلك، غاية ما في الأمر أنَّ تَرْك ذِكْرِها في ألفاظ الأذان والإقامة والتشهد في السنة النبوية الشريفة قولا وتقريرًا يدل على عدم وجوبها لا على عدم مشروعيتها؛ جمعًا بين الأدلة الشرعية؛ لأنه لا يُلجَأ إلى الترجيح إلا عند تعذُّر الجمع.
2- أن كثيرًا من العبادات الشرعية تؤخَذ أحكامها من الأدلة الشرعية المتعددة، منها ما يدل عليها بخصوصه، ومنها ما يدل بعمومه، ومنها ما يدل بمنطوقه، ومنها ما يدل بمفهومه، ولا توجد أحكامها مجموعةً في دليل واحد، فوجوب القراءة في الصلاة مثلا جاء من دليل، وتعيُّن قراءة الفاتحة فيها جاء من دليل آخر، ووجوب أداء الصلاة جاء في القرآن، وأعدادها وأوقاتها وأركانها وركعاتها إنما أُخِذَت من السنة، ولفظ الأذان جاء في حديث، والترجيع فيه أُخذ من حديثٍ آخر... وكذلك في هذه المسألة؛ ألفاظ التشهد والأذان جاءت في موضع، والأمر بتعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتسويده اعتقادًا ونطقًا جاء في موضع آخر، وليس في كلا الأمرين ما ينافي الآخر أو يناقضه؛ لأن صاحب الشرع الذي علَّم الناس ألفاظ الأذان والتشهد هو الذي ندب إلى أن يُسوَّد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ويُعظَّم في كل موضع، وهذه الألفاظ قيلت على سبيل التعليم، واستحباب التسويد خرج مخرج التعميم، فيُحمَل المطلَق على المقيَّد، والجمع بين الدليلين ليس زيادةً في الشرع بل هو مقدَّم على العمل بأحدهما وحدَه، فتعيَّن العمل بالأمرين معًا.
3- أنه لا يصح الاحتجاج بمجرَّد الترك على التحريم أو الكراهة، لا سيما فيما له أصل صحيح متقررٌ في الشرع لا مخصِّصَ له كتعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سواء كان ذلك الترك من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو من صحابته الكرام، بل غايته أن يُستَدل به على عدم الوجوب؛ فليس كل ما ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فِعْله يكون حرامًا أو مكروهًا، ومن باب أوْلَى ليس كل ما تَرَكَه السلف حرامًا أو مكروهًا، بل قد يكون تَرْكهم لهم أمْرًا اتفاقيًّا لا مواطأة فيه، وقد يكون لأنه حرام، أو لأن غيره أفضل منه، أو لغير ذلك من الاحتمالات، وما تطرق إليه الاحتمال بَطَلَ به الاستدلال.
يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: "كل ما له مستند من الشرع فليس ببدعة ولو لم يعمل به السلف؛ لأن تَرْكهم للعمل به قد يكون لعذر قام لهم في الوقت، أو لِمَا هو أفضل منه، أو لعله لم يبلغ جميعَهم عِلْمٌ به" (77 ).
وقال الإمام أبو سعيد بن لُبٍّ المالكي في الرد على مَن كَرِه الدعاء عقب الصلاة: "غاية ما يستند إليه منكر الدعاء أدبار الصلوات أن التزامه على ذلك الوجه لم يكن من عمل السلف، وعلى تقدير صحة هذا النقل فالترك ليس بموجِبٍ لحكمٍ في ذلك المتروك إلا جواز الترك وانتفاء الحرج فيه، وأمَّا تحريمٌ أو لصوقُ كراهيةٍ بالمتروك فلا، ولا سيما فيما له أصلٌ جُمْلي متقرر من الشرع كالدعاء" اهـ نقلاً عن رسالة السيد الحافظ عبد الله بن الصِّدِّيق الغماري "حسن التفهم والدرك لمسألة الترك" (78 ).
4- أن ذِكْر السيادة عند اسم الشخص المشرَّف والموقَّر من تمامه وكماله عادةً وعرفًا، سواءٌ في ذلك مخاطبتُه في حضورِه وذكرُه في غيبته، كما أن ترك ألقاب التوقير مما يُلام عليه بحيث قد يتهم فاعل ذلك بمخالفة الأدب، وخاصة في هذه العصور المتأخرة التي صار ذكر السيادة في عُرْف أهلها من لوازم التقدير والاحترام، وقد جاء الشرع الشريف باعتبار العرْف فيما لا يخالف الشرع، فقال سبحانه وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199]، ومع كثرة ألقاب التفخيم في عصرنا هذا فليس من اللائق أن لا نذكر السيادة مع المصطفى سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ هو الحقيقُ بها في كل موطنٍ يُذكَر فيه صلى الله عليه وآله وسلم.
5- أن دعوى عدم الورود ليست صحيحة؛ فقد وردت السيادة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصحابيين الجليلين عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
فعن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: "إذا صلَّيتُم علَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَأحْسِنُوا الصَّلاَةَ علَيه؛ فإنَّكم لا تدرُونَ لعلَّ ذلك يُعْرَضُ عليه"، فَقَالُوا لَهُ: فَعَلِّمْنَا، قال: "قُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلاَتَكَ وَرَحْمَتَكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، إِمَامِ الْخَيْرِ وَقَائِدِ الْخَيْرِ وَرَسُولِ الرَّحْمَةِ، اللَّهُمَّ ابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَغْبِطُهُ بِهِ الأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" رواه ابن ماجه في "السنن" وابن جرير الطبري في "تهذيب السنن والآثار" وأبو يعلى في "مسنده" والطبراني في "المعجم الكبير" والدارقطني في "العِلَل" وأبو نعيم في "الحلية" والبيهقي في "الدعوات" و"الشعب"، كلهم من طريق المسعودي، عن عون بن عبد الله، عن أبي فاختة مولى جعدة بن هبيرة المخزومي، عن الأسود بن يزيد، عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفًا، وحسّنه الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" والحافظ الهيثمي في "إتحاف الخِيَرَة"، وصححه الحافظ مغلطاي (79 ).
قال شيخ الشافعية العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي في "الدر المنضود": "وهو شامل للصلاة وخارجها" (80 ).
وقد سبق ذِكْر ما نقله الإمام ابن المنذر عن الإمام الحافظ إسحاق بن راهويه من أن أحب صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليه في صلاة الجنازة ما وَصَفَه به ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في هذا الأثر، وجعله أجمل ما جاء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا يقتضي إثباته لهذه الرواية وصحة العمل بها.
أما تضعيف الحافظ ابن حجر لهذا الرواية فهو راجع إلى اختلاط راويه المسعودي عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، وهذا التضعيف متعقَّبٌ من وجهين:
الأول: أنهم إنما أخذوا على المسعودي غلطه فيما يرويه عن صغار شيوخه كعاصم بن بهدلة وسلمة بن كُهيل والأعمش، ولكن ذلك ليس عامًّا في كل رواياته، بل صححوا له رواياته عن كبار مشايخه من المسعودِيِّينَ كالقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وأخيه معن، وعون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود؛ ولذلك قال علي بن المديني: "المسعودي ثقة، وقد كان يغلط فيما روى عن عاصم بن بهدلة، وسلمة، ويصحح فيما روى عن القاسم ومعن"، وقال يحيى بن معين: "أحاديثه عن عون وعن القاسم صحاح" (81 )، وقال أبو زرعة الرازي: "أحاديثه عن غير القاسم وعون مضطربة؛ يهم كثيرًا" (82 )، وقال الإمام الدارقطني: "المسعودي إذا حدَّث عن أبي إسحاق وعمرو بن مرة والأعمش فإنه يغلط، وإذا حدث عن معن والقاسم وعون فهو صحيح، وهؤلاء هم أهل بيته" اهـ من سؤالات السُّلمي (83 ).
وهذا الحديث من رواية المسعودي عن عون بن عبد الله، فهو مما صح من رواياته.
الثاني: أنهم نصوا على أن المسعودي من أعلم الرواة بعلم ابن مسعود رضي الله عنه، قال مِسعَرٌ وابن عيينة: "ما أعلم أحدًا أعلم بعلم ابن مسعود من المسعودي" (84 )، وأن الضعف فيه إنما هو بعد اختلاطه لا قبل ذلك، قال الإمام أحمد: "سماع وكيع من المسعودي بالكوفة قديم، وأبو نعيم أيضًا، وإنما اختلط المسعودي ببغداد، ومَن سمع منه بالكوفة والبصرة فسماعه جيد" (85 )، وهذا الحديث مما رُوِيَ عنه قبل الاختلاط؛ فقد سمعه منه جماعة من المحدِّثين الثقات منهم: وكيع بن الجرَّاح الكوفي (كما عند الدارقطني في "العِلَل") (86 )، وأبو نعيم الفضل بن دُكَين الكوفي وعبد الله بن رجاء الغُدَاني البصري (كما عند الطبراني في "المعجم الكبير") (87 )، والأعمش سليمان بن مهران الكوفي (كما عند الدارقطني في "العلل") (88 )، وجعفر بن عون الكوفي (كما عند البيهقي في "الدعوات الكبير") (89 )، وزياد بن عبد الله البكائي الكوفي (كما عند ابن ماجه في السنن) (90 )، وزيد بن الحُباب الكوفي (كما عند البيهقي في "الشعب") (91 )، وأبو سعيد مولى بني هاشم البصري (كما عند أبي يعلى في "مسنده") (92 )، فهؤلاء ثمانية ليس فيهم بغدادي، كلهم سمعوا منه قبل الاختلاط، وممن نُصَّ على جهة الخصوص من هؤلاء أنه سمع منه قبل الاختلاط: وكيع، وأبو نعيم، وعبد الله بن رجاء، وجعفر بن عون (93 )، وتضعيف أحاديث المسعودي جملةً من التشديد الذي لا يرضاه المحدثون؛ قال الحافظ العراقي في "التقريب والإيضاح": "قد شدَّد بعضهم في أمر المسعودي ورد حديثه كله؛ لأنَّه لا يتميَّز حديثه القديم من حديثه الأخير.. والصحيح ما قدمناه: من أن من سمع منه بالكوفة والبصرة قبل أن يَقدَم بغداد فسماعه صحيح" (94 ) اهـ.
وأما الرواية عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: فرواها أحمد بن منيع في "مسنده" وإسماعيل بن إسحاق القاضي في "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم" والمحاملي في "أماليه": من طريق هُشَيْم، حدثنا أبو بلج الفزاري، حدثنا ثُوَيْرٌ مولى بني هاشم قال: قلت لابن عمر: كيف الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال ابن عمر: "اللهم اجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين، محمد عبدك ورسولك، إمام الخير وقائد الخير، اللهم ابعثه يوم القيامة مقامًا محمودًا يغبطه الأولون والآخرون، وصل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد" (95 ).
6- والجواب عمن قصر الأفضلية على التشهد دون الأذان: أن الدليل الشرعي الخارجي الذي دل على استحباب ذِكْر السيادة في التشهد -مع عدم ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها فيه- دالٌّ أيضًا على استحباب ذكرها في الأذان والإقامة من غير فرْق، كما أن المقصود الأعظم من الأذان الإعلامُ بدخول وقت الصلاة، وهذا المقصود لا ينافيه التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه بذكر سيادته الدالَّة على تعظيمه وشرف قدره صلى الله عليه وآله وسلم، ومع تسليم أن ذِكْر السيادة في الأذان زيادة فيه فإن الشرع قد أذن بالزيادة في الأذان عند الحاجة، كما في نادى منادي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله في الأذان: "صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ" (96 )، وكما زاد سيدنا بلال رضي الله عنه التثويب في أذان الصبح وهو قوله: "الصَّلاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ"، وأقره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك وقال له: «مَا أَحْسَنَ هَذَا يَا بِلالُ! اجْعَلْهُ فِي أَذَانِك» رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (97 )، ولو كانت مثل هذه الزيادة اليسيرة للحاجة غير جائزة في الأذان لأنكر عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزيادة من حيث هي، فلَمَّا استحسنها كان ذلك دليلا على أن مثل هذا مُغْتَفَرٌ في الأذان، بل أجاز بعض الحنفيَّة وبعض الشَّافعيَّة التَّثويب في الصَّبح والعشاء (98 )؛ لأنَّ العشاء وقت غفلة ونوم كالفجر، بل أجازه بعض الشَّـافعيَّة في جميع الأوقات؛ لفرط الغفلة على النَّاس في زماننا (99 )، وقد استحدث علماء الكوفة من الحنفيَّة بعد عهد الصَّحابة تثويبًا آخر، وهو زيادة الحيعلتين أي عبارة "حيَّ على الصَّلاة، حيَّ على الفلاح" مرَّتين بين الأذان والإقامة في الفجر، واستحسنه متقدِّمو الحنفيَّة في الفجر فقط، وكُرِهَ عندهم في غيره، والمتأخِّرون منهم استحسنوه في الصّلوات كلّها -إلا في المغرب لضيق الوقت- وذلك لظهور التَّواني في الأمور الدّينيّة، وقالوا: إنَّ التَّثويب بين الأذان والإقامة في الصَّلوات يكون بحسب ما يتعارفه أهل كلّ بلد؛ بالتّنحنح، أو الصّلاةَ الصّلاةَ، أو غير ذلك (100 )، وأجاز جماعة من السلف الكلامَ في الأذان، بل اتفق الفقهاء على جوازه للحاجة إذا كان يسيرًا وأنه لا يبطل به الأذان (101 ).
ولفظ "سيدنا" في الأذان أخف من ذلك كله، مع كون الحاجة إلى ذكره أدعَى وأولَى في هذه العصر الذي تعيَّنَتْ فيه الألقاب في ذكر الأسماء والتخاطب بين الناس عرفًا، خاصة لذوي المنزلة والمكانة بينهم، فصح بذلك استحبابُ ذكر السيادة في الأذان والإقامة.
وقد نص على خصوص استحباب ذكر السيادة في الأذان والإقامة المتأخرون من الشافعية؛ كالشيخ الشبرامَلِّسي والجمل والشرواني في حواشيهم الفقهية كما سبق النقل عنهم، وكذلك أفتى به شيخ المالكية في عصره الإمام أبو محمد عبد القادر الفاسي، وكان عليه العمل ببعض مدن الإسلام كالقدس ودِمياط وغيرهما (102 ).
وقد ألَّف العلاّمةُ شهاب الدين أحمد بن يونس الحِميَرِي القُسَنْطيني الجزائري المغربي المالكي [ت878هـ] رسالةً في ترجيح ذِكر السيادة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة وغيرها، كما ذكر الحافظ السخاوي في ترجمته مِن "الضوء اللامع" (103 )، وجاء العلامة الحافظ أبو الفيض أحمد بن الصِّدِّيق الغُمّاري الحَسَنِي رحمه الله [ت1380هـ] فألف في هذه المسألة كتابًا حافلاً ماتعًا سماه [تشنيف الآذان بأدلة استحباب السيادة عند ذكر اسمه صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة والإقامة والأذان] جَمَع فيه كلَّ ما يتعلق باستحباب ذِكر الاسم الشريف مقترنًا بالسيادة، مقرِّرًا أنه لا تَنافيَ بين الأدب والاتباع؛ لأن في السيادة اتباعًا للأمر بتوقيره صلى الله عليه وآله وسلم والنهي عن مخاطبته كما يخاطِب الناسُ بعضُهم بعضًا، وليس في الشرع نهي عن تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأذان أو الصلاة، بل من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم أنه هو وحده الذي يمكن أن يخاطبه المصلي دون أن يخرج من صلاته كما سبق.
ومما سبق ومِن النظر في كتب المذاهب الفقهية المعتمَدة يُعلَم أنه ذهب إلى استحباب تقديم لفظ (سيدنا) قبل اسمه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة والأذان والإقامة وغيرها من العبادات جمهور فقهاء المذاهب الفقهية وغيرهم ممن يُعَدُّ اتهامُهم بالبدعة ومخالفة السنَّة نوعًا من الهوى والتعصب المقيت الذي لا يرضاه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم:
فممن اختار ذلك من السادة الحنفية: النجم القحفازي، والحصكفي، والحلبي، والطَحطاوي، وابن عابدين.
ومن السادة المالكية: سيدي أبو الفتح ابن عطاء الله السكندري، والشهاب الحِميَري، والأُبِّي، والسنوسي، والونشريسي، وأبو العباس البوني، والعقباني،
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد..
فإن سيدنا محمَّدًا صلى الله عليه وآله وسلم هو جوهرة النفوس، وتاج الرؤوس، وسيد ولد آدم أجمعين، ولا يدخل الإنسان دائرة الإيمان إلا بحبه وتعظيمه وتوقيره والشهادة برسالته؛ فهو أحد ركنَي الشهادة؛ إذ لا يقبل الله تعالى من أحد الوحدانية حتى يَشفَعَها بأنه صلى الله عليه وآله وسلم رسوله إلى العالمين.
وقد عَلَّمَنا الله تعالى الأدب مع سيدنا محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم حين خاطَب جميع النبيين بأسمائهم، أما هو فلم يخاطبه باسمه مجرَّدًا بل قال له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، وأمَرَنا بالأدب معه وتوقيره فقال: {إنَّا أَرْسَلناكَ شَاهِدًا ومُبَشِّرًا ونَذِيرًا * لِتُؤمِنُوا بِاللهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ وتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأَصِيلا} [الفتح: 8-9]، ومِن توقيره تَسوِيدُه عليه الصلاة والسلام كما قال السديُّ: "{وتوقروه}: أي تُسَوِّدُوه"، ذكره القرطبي في تفسيره(1 )، وقال قتادةُ: "أمَرَ الله بتسويده وتفخيمه وتشريفه وتعظيمه". أخرجه عبد بن حميد وابن جرير الطبري في التفسير(2 )، ونهانا عن التقديم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وحذَّرنا مِن رفع الصوت فوق صوته الشريف صلى الله عليه وآله وسلم أو الجهر له بالقول فقال تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ ورَسُولِهِ واتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَولِ كجَهْرِ بَعْضِكُمْ لبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أعْمَالُكُمْ وَأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أولَئِكَ الَّذِينَ امتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَّغفِرةٌ وأجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 1-3]. ونهانا أن نخاطبه صلى الله عليه وآله وسلم كما يُخاطب بعضُـنا بعضًا فقال سبحانه: {لا تَجعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، قال قتادة: "أَمَرَ الله عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُهَابَ نَبِيُّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ يُبَجَّلَ وَأَنْ يُعَظَّمَ وَأَنْ يُسَوَّدَ". أخرجه ابن أبي حاتم وغيره في التفسير(3 ). فكان حقًّا علينا أن نمتثل لأمر الله، وأن نتعلم مع حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأدبَ معه، ومن الأدب معه أن نُسَوِّدَه كلما ذُكِرَ، وأن نصلي عليه كلما ذُكِر، وأن لا نخاطبه باسمه مجرَّدًا عن الإجلال والتبجيل.
ولا فرق بين النداء والذِّكْر في ذلك؛ فكما يُشرَع استعمالُ الأدب والتوقير والتعظيم عند دعائه صلى الله عليه وآله وسلم يُشرَع كذلك عند ذكر اسمه صلى الله عليه وآله وسلم والصلاة عليه من غير فرق؛ لوجود العلة في كلا الأمرين، وهي النهي عن مساواته بغيره من المخلوقين، وذلك حاصل في الذكر كما هو حاصل في الخطاب والنداء، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.
تحرير محل النزاع في المسألة:
أجمعت الأمَّة على ثبوت السيادة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى عَلَمِيَّته في السيادة، قال الشرقاوي: "فلفظ "سيدنا" عَلَمٌ عليه صلى الله عليه وآله وسلم"(4 )، وأما ما شذَّ به بعضُ مَن تمسَّك بظاهر بعض الأحاديث متوهِّمين تعارضها مع هذا الحكم فلا يُعتَدُّ به، ولذلك اتفق العلماء على استحباب اقتران اسمه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم بالسيادة في غير الألفاظ الواردة المتعبَّد بها من قِبَل الشرع(5 ).
كما اتفقوا على عدم زيادتها في التلاوة والرواية (6 ):
أما التـلاوة: فإن القرآن كلام الله تعالى لا يجوز أن يزاد فيه ولا أن ينقص منه، ولا يقاس كلام الله تعالى على كلام خلقه(7 ).
وأما الروايـة: فإنها حكايةٌ للمَرْوِيِّ وشهادةٌ عليه؛ فلابُدَّ من نقلها كما هي، على أن بعض العلماء نصُّوا على أن هذا بحسب الوضع في الخط، وأما مِن حيث الأداء -حيث يُؤمَن اللبس وإيهامُ الزيادة- فالأَوْلَى أن لا تَعرَى عنها في المرْوِيِّ وغيره، كما قال الإمام العارف بالله أبو عبد الله الهاروشي المالكي وغيره (8 ).
أما بالنسبة للألفاظ الواردة المتعبَّد بها من قِبَل الشرع كالأذان والإقامة وتشهد الصلاة: فمذهب جمهور العلماء والمحققين من أتباع المذاهب الفقهية المعتمَدة وغيرهم أنه يُستحَبُّ اقترانُ الاسم الشريف بالسيادة أيضًا في الأذان والإقامة والصلاة؛ بناءً على أن الجمع بين الأدب والاتباع أوْلَى من الاقتصار على الاتباع؛ لأن الجمع أوْلَى من الترجيح، وفي الأدب اتِّباعٌ للأمر بتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم تُخَصَّ منه صلاةٌ ولا أذانٌ ولا إقامةٌ، وقد علَّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُمَّتَه الأدبَ معه حيث أخبر بالسيادة عن نفسه الشريفة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ» (9 )، وقال لمن خاطبوه بقولهم: "أنْتَ سَيِّدُنَا": «السَّيِّدُ اللهُ»، ثم قال: «قُولُوا قَوْلَكُمْ، وَلاَ يَسْتَجِرَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ» رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما (10 )، فأقرَّ ذِكْر السيادة ونبَّه على صحة المعنى بالتحذير من إهمال الفرق بين سيادة المخلوق والسيادة المطلَقة للخالق سبحانه، قال الإمام الخَطّابي: "قَوْلُه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِه وَسَلَّمَ «السَّيِّدُ اللهُ» أَيْ السُّؤْدُد كُلّه حَقِيقَة للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّ الْخَلْق كُلّهمْ عَبِيد الله، وَإِنَّمَا مَنَعَهُمْ أَنْ يَدْعُوهُ سَيِّدًا مَعَ قَوْله «أَنَا سَيِّد وَلَد آدَم» لأَنَّهُمْ قَوْمٌ حَدِيث عَهْد بِالإِسْلامِ، وَكَانُوا يَحْسِبُونَ أَنَّ السِّيَادَة بِالنُّبُوَّةِ كَهِيَ بِأَسْبَابِ الدُّنْيَا وَكَانَ لَهُمْ رُؤَسَاء يُعَظِّمُونَهُمْ وَيَنْقَادُونَ لأَمْرِهِمْ، وَقَوْله «قُولُوا بِقَوْلِكُمْ» أَيْ قُولُوا بِقَوْلِ أَهْل دِينكُمْ وَمِلَّتكُمْ وَادْعُونِي نَبِيًّا وَرَسُولاً كَمَا سَمَّانِي الله تَعَالَى فِي كِتَابه وَلا تُسَمُّونِي سَيِّدًا كَمَا تُسَمُّونَ رُؤَسَاءَكُمْ وَعُظَمَاءَكُمْ وَلا تَجْعَلُونِي مِثْلهمْ؛ فَإِنِّي لَسْت كَأَحَدِهِمْ؛ إِذْ كَانُوا لَيْسُوا دُونكُمْ فِي أَسْبَاب الدُّنْيَا وَأَنَا أَسودكُمْ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَة فَسَمُّونِي نَبِيًّا وَرَسُولاً" (11 ).
وخُوطِب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بـ"يا سَيِّدِي" فأقرَّ ذلك ولم ينكره؛ فعن سَهْلِ بن حُنَيْفٍ رضي الله عنه قال: مَرَرْنَا بِسَيْلٍ، فَدَخَلْتُ فَاغْتَسَلْتُ فِيهِ، فَخَرَجْتُ مَحْمُومًا، فَنُمِيَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: «مُرُوا أَبَا ثَابِتٍ يَتَعَوَّذ»، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي! وَالرُّقَى صَالِحَةٌ؟ فَقَالَ: «لاَ رُقْيَةَ إِلاَّ فِي نَفْسٍ أَوْ حُمَةٍ أَوْ لَدْغَةٍ» رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي في "عمل اليوم والليلة" والحاكم في "المستدرك" وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (12 )، وفي إقراره صلى الله عليه وآله وسلم لذلك إِذْنٌ منه في خطابه وذِكْرِه بذلك وأنه أمر مشروع، ولا فرْق في ذلك بين أن يكون داخل الصلاة أو خارجها، بل ذلك في الصلاة أوْلَى؛ لأن الشرع راعى الأدب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة بصورة مؤكَّدة؛ فشرع للمصَلِّي مخاطبة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم داخلَ الصلاة وجعلها تبطل بمخاطبة غيره، وأوجب الله تعالى على المصلِّي أن يجيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خاطبه أثناءها ولا تبطل بذلك صلاتُه؛ مبالغةً في الأدب معه صلى الله عليه وآله وسلم ومراعاةً لحرمته وجنابه الشريف، وهذا جارٍ أيضًا في الأذان والإقامة فتخصيصُهما من ذلك لا دليل عليه بل هو على عمومه. بل أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأمر بتسويده عند ذكر اسمه الشريف حيث راجع مَن ذكَرَه مجرَّدًا عن السيادة؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: صَعِد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «مَنْ أَنَا؟» قلنا: رسول الله، قال: «نَعَمْ، وَلَكِنْ مَنْ أَنَا؟» قلنا: أنت محمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، قال: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلا فَخْرَ» رواه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (13 ).
وإذا قيل بالترجيح بينهما فالأدب مقدَّم على الاتباع، كما ظهر ذلك في موقف سيدنا علي رضي الله تعالى عنه في صلح الحديبية حيث رفض أن يمحو كلمة "رسول الله" عندما أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمحوها (14 )؛ تقديمًا للأدب على الاتباع، وظهر ذلك أيضًا في تقهقر سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الصلاة بعد أمْرِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له بأن يبقَى مكانه وقال له بعد الصلاة: "ما كانَ لابنِ أبي قُحافةَ أنْ يُصَلِّيَ بينَ يَدَي رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّم" (15 )، وكذلك فعل سيدنا عثمان رضي الله عنه حيث أخَّر الطوافَ لـمَّا دخل مكَّة في قضية صلح الحديبية مع علمه بوجوب الطواف على مَن دخل مكة؛ أدبًا معه عليه الصلاة والسلام أن يطوف قبله وقال: "ما كُنتُ لأَفعَلَ حتَّى يَطُوفَ بِه رسولُ اللهِ"(16 )، وأقره النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك وجَعَلَه مِن مفاخره ومناقبه؛ فإنه لَمَّا قال الناس: "هنيئًا لأبي عبد الله! يطوف بالبيت آمنًا"، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَوْ مَكَثَ كَذَا وَكَذَا سَنَةً مَا طَافَ حَتَّى أَطُوفَ» رواه ابن أبي شيبة في "المصنَّف" وابن أبي حاتم في "التفسير" (17 ).
وهذا هو المعتمد عند الشافعية -كما نصَّ عليه العلامة المحقق الجلال المحلي [ت864هـ]، والشيخان: ابن حجر الهيتمي [ت973هـ] والشهاب الرملي [ت957هـ]-، وعند الحنفية -كما أفتى به العلامة القحفازي [ت745هـ]، واعتمده البرهان الحلبي [ت956هـ]، والإمام علاء الدين الحَصْكَفي [ت1088هـ]، والعلامة الطحطاوي [ت1231هـ]-، وعند المالكية -كما قال الإمام العارف بالله تعالى أبو الفتح ابن عطاء الله السكندري [ت709هـ] وجزم به القاضي ابن عبد السلام [ت749هـ] قاضي الجماعة في تونس، وشيخ الإسلام أبو القاسم البرزلي [ت844هـ]، والشهاب الحِمْيَرِي القُسَنْطيني الجزائري [ت878هـ]، واعتمده الإمام الحطَّاب [ت954هـ]، والإمام الأُبِّي [ت827هـ] وغيرهم-، ونقله الإمام أبو بكر بن المنذر النيسابوري [ت319هـ] عن الإمام الحافظ إسحاق بن راهويه [ت238هـ] في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الجنازة، ورجحه العلاّمة محمد بن علي الشوكاني [ت1250هـ].
وفيما يلي بعض النصوص والفتاوى الفقهية في ذلك والتي صدرت عن الفقهاء والمحدِّثين من أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم وزخرت بها كتبهم ومصنَّفاتُهم، من أنه يُندَب الإتيان بلفظ "سيدنا" قبل اسمه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم حتى في العبادات كالصلاة والأذان والإقامة وأن ذِكْر السيادة خير مِن تركها.
فمن أهل الحديث:
الإمام الحافظ المجتهد أمير المؤمنين في الحديث إسحاق بن راهويه الحنظلي [ت238هـ]؛ نقل عنه الإمام الحافظ أبو بكر بن المنذر النيسابوري [ت319هـ] استحباب تسويد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الجنازة، وذلك في كتابه "الأوسط في السُّنَن والإجماع والاختلاف" فقال:
"وقال إسحاق: إذا كبَّر الثانية صلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأحب الصلاة إلينا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما وصفه ابن مسعود؛ لأنه أجمل ما جاء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن يقول: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلاتَكَ وَبَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتَكَ عَلَى إِمَامِ الْمُتَّقِينَ، وَسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَخَاتَمِ النَّبِيِّينّ، مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، إِمَامِ الْخَيْرِ وَقَائِدِ الْخَيْرِ وَرَسُولِ الرَّحْمَةِ، اللَّهُمَّ ابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا، يَغْبِطُهُ الأوَّلُونَ وَالآخِرُونَ، اللَّهُمَّ صَلِّ علَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمِّد كَمَا صَلَّيْتَ علَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكَ علَى مُحَمَّدٍ وَعلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ علَى إِبْرَاهِيمَ وَعلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" (18 ) اهـ، وسيأتي الكلام في إثبات صحة هذا الأثر.
وهذا النقل يدل على أن ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسيادة في الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم داخلَ الصلاة وخارجَها كان أمْرًا معهودًا عند السلف الصالح، ولو كان في ذلك شيء من البدعة أو مخالفة الهدي النبوي لسارعوا إلى إنكاره، وعلى ذلك فدعوى بدعية تسويد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة وغيرها هي في الحقيقة ضَرْبٌ من التنطُّع المذموم المنافي لمنهج السلف الصالح رضوان الله تعالى عنهم.
ومما يُروَى عن التابعين من تسويد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأذكار المأثورة خارجَ الصلاة ما رواه عبد الرزاق في "المصنَّف" عن أيوب ابن أبي تميمة السختياني وجابر الجعفي قالا: "من قال عند الإقامة: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، أعطِ سيدنا محمدًا الوسيلة، وارفع له الدرجات، حقت له الشفاعة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم" (19 ).
ومن السادة الحنفية:
الإمام العلامة نجم الدين علي بن داود القحفازي الحنفي [ت745هـ] شيخ أهل دمشق في عصره؛ حيث ذكر الحافظ السخاوي في كتابه "القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع" أنه كان يفتي بذلك ( 20).
والعلامة علاء الدين الحَصْكَفي [ت1088هـ] حيث يقول في "الدر المختار شرح تنوير الأبصار": "ونُدِبَ السيادةُ؛ لأن زيادة الإخبار بالواقع عَينُ سلوك الأدب؛ فهو أفضل مِن تركه، ذكره الرملي الشافعي وغيره، وما نُقِل "لا تُسَوِّدُونِي في الصَّلاةِ" فكذِبٌ، وقولُهم "لا تُسَيِّدُوني" بالياء لحنٌ أيضًا، والصواب بالواو" (21 ) اهـ.
قال العلامة محمد أمين ابن عابدين الحنفي [ت1252هـ] في حاشيته "رد المحتار على الدر المختار": "وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِنَا؛ لِمَا مَرَّ مِنْ قَوْلِ الإِمَامِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ زَادَ فِي تَشَهُّدِهِ أَوْ نَقَصَ فِيهِ كَانَ مَكْرُوهًا.
قُلْت: فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ الصَّلاةَ زَائِدَةٌ عَلَى التَّشَهُّدِ لَيْسَتْ مِنْهُ، نَعَمْ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا عَدَمُ ذِكْرِهَا فِي "وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ" وَأَنَّهُ يَأتِي بِهَا مَعَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ" (22 ) اهـ.
وقال العلامة الطحطاوي الحنفي [ت1231هـ] في حاشيته على "الدر المختار" أيضًا: "(قوله: ونُدِب) ظاهرُ الشرحِ طَلَبُها في نبيِّنا وأبيه الخليل عليهما الصلاة والسلام؛ لاشتراكهما فيها، ولا يَخفَى أن هذه الزيادةَ مستحبةٌ كما قال الحلبي.
(وقوله: نقله الرملي) فيه أنه ليس من أهل المذهب، اللهم إلا أن يُقال إن مثل هذا لا يُختَلَفُ فيه" (23 ) اهـ.
ومن السادة المالكية:
الإمام العارف بالله تعالى أبو الفتح ابن عطاء الله السكندري [ت709هـ]، حيث يقول في "مفتاح الفلاح ومصباح الأرواح": "وإيَّاك أن تترك لفظ السيادة؛ ففيها سِرٌّ يظهر لِمَن لازم هذه العبادة" (24 )اهـ.
وقال الإمام أبو عبد الله الأُبِّيُّ المالكي [ت827هـ] في "إكمال إكمال المُعلِم لفوائد كتاب مسلم": "وما يُستَعمَل من لفظ "السيد" و"المَولَى" حَسَنٌ وإن لم يَرِدْ، والمستَنَد فيه ما صح من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ». واتفق أن طالبًا يُدعَى بابن غمرين قال: لا يُزاد في الصلاة "على سيدنا"، قال: لأنه لم يَرِد، وإنما يُقال "على محمَّد"، فنقمها عليه الطلبة، وبلغ الأمر إلى القاضي ابن عبد السلام، فأرسل وراءه الأعوان، فتخفَّى مدةً ولم يخرج، حتى شفع فيه حاجب الخليفة حينئذ فخلَّى عنه، وكأنه رأى أن تغيُّبه تلك المدة هي عقوبته" ( 25) اهـ.
وكذا قال العلامة أبو عبد الله محمد بن يوسف السنوسي الحسيني المالكي [ت895هـ] أيضًا في شرحه على صحيح مسلم المسمَّى "مكمِّل إكمال الإكمال" (26 ).
وقال الإمام الوَنْشَرِيسي [ت914هـ] في "المعيار المُعْرِب":
"وسُئِل سيدي قاسم العقباني [ت854هـ] رحمه الله: هل يجوز أن يُقال: (اللهم صلِّ على سيدنا محمَّد) أم لا؟
فأجاب: الصلاة على نبينا سيدنا محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم من أفضل العبادات، ومن معنى الوارد في الذكر؛ لأن ذِكْرَه صلى الله عليه وآله وسلم يقارنه أبدًا في القلب وفي اللسان ذِكْرُ مولانا جل جلالُه، وأفضل الأذكار ما جيءَ به على الوجه الذي وَصَفَه صاحب الشريعة، ولكن ذِكْر نبيِّنا صلى الله عليه وآله وسلم بالسيادة وما أشبهها من الصفات التي تدل على التعزير والتوقير ليس بممنوع، بل هو زيادة عبادة وإيمان، لاسيما بعد ثبوت «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ»؛ إذ ذكرُه صلى الله عليه وآله وسلم بـ"سيدنا" بعد ورود هذا الخبر إيمان بهذا الخبر، وكلُّ تصديق بما جاء به المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فهو إيمان وعبادة، والله الموفق بفضله. انتهى..
وأجاب سيدي عبد الله العبدوسي [ت849هـ] عن مثل هذه فقال: ينبغي أن لا يزاد فيها ولا يُنقص منها، فإن زاد فيها "سيدنا" و"مولانا" فجائز؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أتَى بها تعليمًا لهم حين قالوا له: إن الله سبحانه أمرنا أن نصلِّي عليك، فكيف نصلِّي عليك؟ وأما الصلاة المرتجَلة التي لم تَرِد بلفظه فتزيد فيها "سيدنا ومولانا محمد"؛ إذ هو سيدنا ومولانا صلى الله عليه وآله وسلم، وقد نصَّ على هذه المسألة بعينها الإمام الباخلي في "شرح الحزب الصغير" للقطب سيدنا ومولانا أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه، وبالله التوفيق" (27 ) اهـ.
وقال الإمام الحطَّاب المالكي [ت954هـ] في أول شرحه "مواهب الجليل": بعد أن نقل ما سبق عن الأُبِّي: "وذكر البرزلي عن بعضهم أنه أنكر أن يقولها -يعني لفظ "السيد"- أحدٌ، ثم قال: وهذا إن صح عنه غاية الجهل، قال: واختار شيخ شيوخنا المجد اللغوي صاحب القاموس ترك ذلك في الصلاة؛ اتِّباعًا لِلَفظ الحديث، والإتيانَ به في غير الصلاة، وذكر الحافظ السخاوي في "القول البديع" كلامَه، وذكر عن ابن مفلح الحنبلي نحو ذلك، وذَكَرَ عن الشَّيخِ عِزِّ الدِّينِ ابنِ عبدِ السَّلامِ أَنَّ الإتيانَ بها في الصَّلاةِ يَنبَنِي على الخِلافِ: هل الأَولَى امتِثالُ الأَمرِ أو سُلُوكُ الأَدَبِ؟ قُلت: واَلذي يَظهَرُ لي وأَفعَلُه في الصَّلاةِ وغيرِها الإتيانُ بلَفظِ "السَّيِّدِ"، واَللهُ أَعلَمُ" (28 ) اهـ.
قال الإمام أبو عبد الله محمد العربي بن أحمد بردله [ت1134هـ] في "نوازله" تعقيبًا على كلام الإمام الحطّاب: "والذي اختاره الشيخ الحطَّاب هو ما عليه الناس" (29 ) اهـ.
وقال الإمام محمد المهدي الفاسي المالكي [ت1052هـ] في "مطالع المسرّات بشرح دلائل الخيرات": "الصحيح جواز الإتيان بلفظ "السيد" و"المولَى" ونحوهما مما يقتضي التشريف والتوقير والتعظيم في الصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإيثار ذلك على تركه، ويُقال في الصلاة وغيرها إلا حيث تُعُبِّد بلفظ ما رُوِيَ فيُقتَصَر على ما تُعُبِّد به، أو في الروايـة -يعني في حكايتها- فيؤتَى بها على وجهها، وقال البرزلي: ولا خلاف أن كل ما يقتضي التشريف والتوقير والتعظيم في حقه عليه الصلاة والسلام أنه يقال بألفاظ مختلفة، حتى بلّغها ابن العربي مائة فأكثر" (30 ) اهـ.
وقال العلامة النفراوي [ت1126هـ] في "الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني": "وَعَبَّرَ بِـ"سَيِّدِنَا" إشَارَةً إلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلاةِ وَغَيْرِهَا" ( 31) اهـ.
وقال الإمام أبو العباس أحمد بن قاسم البوني [ت1139هـ] في كتابه في آداب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ومنها: إذا مرَّ في صلاته عليه صلى الله عليه وآله وسلم على اسم "محمَّد" صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الكيفيات مجرَّدًا عن السيادة فليزد لفظ السيادة بلسانه فقط؛ فذلك هو الأدب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأما الكتابة فإنها تابعة للرواية من غير زيادة ولا نقصان، اتفق الصوفية على ذلك في القرن الثالث، ووافقهم العلماء عليه، وقالوا: نختص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك دون سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيحين: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ»، ومن أسمائه صلى الله عليه وآله وسلم: سيِّد... وسيادتُه صلى الله عليه وآله وسلم أجلى وأظهر وأوضح من أن يُستَدَلَّ عليها؛ فهو سيد العالم بأسره من غير تقييد ولا تخصيص وفي الدنيا وفي الآخرة، وإنما قال في الحديث: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» لظهور انفراده بالسؤدد والشفاعة فيه عن غيره حين يلجأ إليه الناس في ذلك فلا يجدون سواه، وجميع الخلائق مجتمعون أوَّلُهم وآخرُهم وإِنْسُهُم وجِنُّهُم وبينهم الأنبياء والمرسلون، وتلك الدارُ دارُ الدوام والبقاء، فهي المعتبَرة، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم معلومًا بالسيادة نسبًا وطبعًا وخلقًا وأدبًا إلى غير ذلك من المكارم والمفاخر قبل ظهوره بالنبوة، يعرف ذلك مَن اعتنى بالسير وتعرف أحواله من الصغر إلى الكبر صلوات الله عليه وسلامه... ثم قال: وفي عمدة المريد للشيخ إبراهيم اللقاني على الجوهرة له قال أستاذنا: ولا خلاف في استعمال "السيد" فيه عليه الصلاة والسلام واستحبابه في غير الصلاة، وإنما الخلاف في استعماله في الصلاة: فكَرِهَه قومٌ، وأجازه آخرون، وقضية صنيع ابن عبد السلام استحبابه، وسُئِل عن ذلك المحقق المحلي، فأجاب بأن الأدب مع من ذُكِر مطلوبٌ - يعني أنه مستحَبٌّ - وأشار إلى أن ذلك يخَرَّج على قاعدتين فيما إذا تعارضتا فأيتهما تقدم: امتثال الأمر؛ عملاً بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» (32 )، والثانية سلوك الأدب؛ حيث تأخَّرَ عن المحراب أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم له "مَكَانَك" فتأخَّر، وهذه الطريقة هي الراجحة، وبها أخَذَ ابن عبد السلام وابن جماعة الشافعيان وابن عبد السلام المالكي، وحديث "لا تسودوني في الصلاة" لا أصل له كما قاله الجلال، قال بعضهم: ولو ورد أمكن تأويله" (33 ) اهـ.
وقال الشيخ أبو العباس أحمد بن صالح النفجروتي الدرعي المالكي [ت1147هـ] في كتابه "تنبيه الغافل عما ظنه عالم": "وانظر هل يجوز لأحد أن يزيد لفظ "السيادة" قبل "محمد" أو لا؟ فيقتصر على لفظ "محمَّد" خاصة كما ورد في الحديث... وكنت أزيدها حيث صليت عليه وأستحي أن أذكر اسم "محمد" خاصة دون لفظ السيادة وأستثقله كثيرًا، مع أني لم أَرَ مِن ذِكْرها كذلك من الأئمة المقتدَى بهم، ثم خفت بعد ذلك هل يُقبَل مني ذلك لكوني أزيد ما لم يذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا ذَكَرَهُ أحدٌ من الأئمة، حتى وقفت على كلام الإمام البرزلي رحمه الله في المسائل التي أنكرها أبو عمر الرجراجي على أهل تونس، فذكر منها هذه المسألة، ونصه (في المسألة السابعة): ومما سُمِع أيضًا منه أنه قال -وأمر به-: لا يقُل أحدكم: "اللَّهُمَّ صلِّ علَى سيِّدنا محمَّد"؛ لأنه ما ورد في الحديث إلا "اللَّهُمَّ صلِّ علَى محمَّد"، وهذه غاية الجهل؛ لأنه خرج منه صلى الله عليه وآله وسلم مخرج التعليم للصلاة عليه لا لقصد لفظه، بل لَمَّا افتُقِر إلى معرفة منزلته قال: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ» (34 )، وقوله:«آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ لِوَائِي، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ» (35 )، ولا خلاف أن كل ما يقتضي التشريف والتوقير والتعظيم في حقِّه عليه الصلاة والسلام أنه يقال بألفاظ مختلفة حتى بلغها ابن العربي مائة فأكثر، وقد وقعت في قضاء ابن عبد السلام، وهو أن رجلا ينتحل الطلب فقال: من قال "سيدنا محمَّد" في الصلاة بطلت صلاتُه، فرُفعَت قضيتُه للقاضي ابن عبد السلام فوقع الطلب عليه، واستخفى ستة أشهر حتى شفع فيه للقاضي فعفا عنه، وموجبه الجهل بحقائق الأشياء" اهـ كلام الإمام البرزلي.
ثم رأيتُ أيضًا لبعض الشُّرَّاح: "ويجوز أن يُقال: صلى الله على سيدنا؛ لأنه سيد الأولين والآخرين"اهـ، ثم وقفت أيضًا على كلام الإمام ابن عطاء الله رضي الله عنه في كتابه المسمَّى "مفتاح الفلاح" ونَصُّه لما تكلم ذكر الصلاة التامة قال: "وإيَّاك أن تترك لفظ "السيادة"؛ ففيها سِرٌّ يظهر لمن لازم هذه العبادة"اهـ، فزال عني -والحمد لله- ما كنت أخاف منه" (36 ) اهـ.
وقال السملالي [ت1152هـ] في "نوازله": "الأَوْلى والمؤكَّد ذكر السيادة مطلقًا، والله أعلم، نَصَّ على ذلك الشيخ ابن عطاء الله والإمام الحطَّاب، وأَلَّف القُسَنْطِيني على ذلك، وغيرهم ممن لا يُحصَى كثرةً، وهو المعَّول عليه" (37 ) اهـ.
وقال العارف بالله تعالى الإمام عبد الله الخياط الهاروشي [ت1175هـ] في كتابه "الفتح المبين والدر الثمين في الصلاة على سيد المرسلين": "والذي جرى عليه عمل الأئمة زيادة السيادة في غير الوارد وتركها فيما ورد؛ اتباعًا للفظ فرارًا من الزيادة فيه؛ لكونه خرج مخرج التعليم، ووقوفًا عند ما حُدَّ لهم، وعلى هذا درج صاحب "دلائل الخيرات" رضي الله عنه وغيره؛ فإنما أثبت اللفظ الوارد من غير زيادة السيادة وزادها في غير الوارد، لكن هذا بحسب الوضع في الخط، وأما من حيث الأداء فالأَوْلَى أن لا تَعرَى عنها في الوارد وغيره. سُئِل شيخنا العياشي حفظه الله عن زيادة السيادة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: السيادة عبادة، قلتُ: وهو بَيِّنٌ؛ لأن المصلي إنما يقصد بصلاتِه تعظيمَه صلى الله عليه وآله وسلم، فلا معنَى حينئذٍ لترك التسويد؛ إذ هو عين التعظيم، وفي "الحِكَم": "ما الشأن وجودُ الطلب، وإنما الشأن أن تُرزَق حسن الأدب {لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9]" (38 ) اهـ.
قال: "وإنما لم يتلفَّظ صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ السيادة حين تعليمهم كيفيةَ الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم لكراهيته الفخر؛ ولهذا قال: "أنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ولا فَخرَ"، وأما نحـن فيجب علينا تعظيمه وتوقيره؛ ولهذا نهانا الله تعالى أن نناديه صلى الله عليه وآله وسلم باسمه فقال: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]" (39 ) اهـ.
وقال العلمي في "نوازله": "وسئل بعضهم عن مسألة الذكر وهو الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشر مرات بعد الصلاة مثلا يختم العشرة بلا إله إلا الله سيدنا محمَّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحكم مَن قال لا يُقال سيدنا إلا قول محمَّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فأجاب: أن نبينا وحبيبنا وسيدنا محمَّدًا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجب توقيره وتعظيمه، ولا ينبغي للإنسان أن يذكر اسمه مجرَّدًا عن ذكر السيادة والرسالة أو غير ذلك مما يوجب تعظيمه وتوقيره، وقد نهى الله تعالى في كتابه عن ذكره ودعائه باسمه مجرَّدًا فقال جل من قائل: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، قال العلماء: يعني لا تنادوه وتدعوه "يا فلان" باسمه كما يُنادى أحدكم لبعضكم بعضًا، وحكم هذا القائل بإسقاط السيادة المقرونة باسمه صلى الله عليه وآله وسلم الأدب الشديد، وقد وقع مثل مقالة هذا الجاهل في زمن الشيخ ابن عبد السلام مِن بعض الطلبة فقال كما قال هذا أنه لا يزاد في الصلاة عليه ذكر سيدنا أو نحو ذلك، فأمر ابن عبد السلام بسجنه وأن يُؤَدَّب، ففر ذلك الطالب واختفى حتى شفع فيه أمير تونس، فرأى ابن عبد السلام أن فراره وغيبته والشفاعة فيه أدبٌ له، وكتب موسى الخطيب.
قال العلمي: وفي حواشي شيخ شيوخنا أبي زيد سيدي عبد الرحمن الفاسي [ت1096هـ] على "دلائل الخيرات" ما نصه:
قال الأُبِّي في "شرح مسلم": ما يُستعمَل في هذا المقام من لفظ "المَولَى" و"السيد" حسـن... إلخ ما سبق عنه، ثم قـال: وذكر السخاوي عن عز الدين بن عبد السلام أن الإتيان بها في الصلاة ينبني على الخلاف: هل الأَولَى امتثال الأمر أو سلوك الأدب؟ ويشهد لسلوك الأدب والله أعلم امتناع علي كرم الله وجهه من محو اسمه صلى الله عليه وآله وسلم مع أمره له بذلك في عقد صلح الحديبية، على أنه لم يَرِد صريح الأمر بتركه في الصلاة، وقد سُئِل السيوطي عن حديث "لا تسيدوني في الصلاة" فأجاب بأنه لم يَرِد ذلك، وقد نهى الله تعالى أن يُنادَى النبي صلى الله عليه وآله وسلم باسمه كما يُنادي بعضنا بعضًا" (40 ) اهـ.
وقال العارف أحمد بن محمَّد ابن عجيبة المالكي [ت1224هـ] في "حاشيته على الجامع الصغير": "والأحسن -من جهة الأدب- التسويد في التعبد بالصلاة عليه مطلقًا، والله أعلم" (41 ) اهـ.
وقال الشيخ محمد الطيب ابن كيران المالكي [ت1227هـ] في شرحه على ألفية العراقي في السيرة: "الثامن: استعمال لفظ "السيد" و"المولَى" في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم حسنٌ وإن لم يَرِد؛ لورود «أَنَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ» (42 ) «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ» ( 43)، وطلب ابن عبد السلام تأديب مَن زعم بطلان صلاة مَن ذَكَرَ ذلك في الصلاة، فتغيَّب حتى شفع فيه، فكأنه رأى أن تغيبه تلك المدة عقوبة له، واختار المجد اللغوي صاحب القاموس ترك السيادة في الصلاة والإتيان بها في غيرها، وقال العز بن عبد السلام: ينبني ذلك على أن الأَوْلَى امتثال الأمر أو سلوك الأدب؟ قال الحطَّاب: والذي يظهر لي وأفعله الإتيان بالسيادة في الصلاة وغيرها"اهـ.
وذكر مثله في شرحه على "توحيد المرشد المعين"، فكتب عليه مُحَشِّيه الإمام الشريف محمد بن قاسم القادري [ت1331هـ]: "(قوله: حسن) أي وأما خبر "لا تسيدوني في صلاتكم" فهو موضوع كما قال السيوطي.
(قوله: واختار المجد... إلخ) ليس بصواب.
(قوله: أو سلوك الأدب) هو الصواب.
(قوله: الذي يظهر لي وأفعله الإتيان بالسيادة في الصلاة وغيرها) هذا هو الصواب عند أهل الظاهر والباطن" (44 ) اهـ.
وقال العلامة بدر الدين الحمومي [ت1266هـ] في "شرح المرشد المعين": "مسألة: استعمال لفظ "المَولَى" و"السيد" في الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم حسنٌ وإن لم يَرِد في الصلاة عليه؛ لورود «أَنَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ» رواه الحاكم وصححه، و«أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ»..." (45 ) اهـ.
وقال الإمام الحافظ محمد بن جعفر الكتاني [ت1345هـ] في جواب له في هذه المسألة: "اعلم أن ذكر الاسم الشريف بالسيادة ونحوها مما يدل على التعظيم والتشريف أمر متفق على طلبه واستحبابه في الجملة امتثالا لقوله تعالى: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، وقوله: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] وقُرئ "تعززوه" من العز بزايين، وتخلُّقًا بأخلاق القرآن في {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ}، واقتداءً بسيدنا أبي بكر رضي الله عنه في تأخره عن الإمامة أدبًا معه عليه الصلاة والسلام مع أمره له بإتمام الصلاة، وسيدنا عثمان رضي الله عنه حين أخر الطواف لَمَّا دخل مكة في قضية صلح الحديبية مع علمه بوجوبه على مَن دخلها أدبًا معه عليه الصلاة والسلام أن يطوف قبله وقال: "ما كنتُ لأفْعَلَ حتَّى يطوف رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم" (46 )، وسيدنا علي رضي الله عنه حيث امتنع من محو اسمه صلى الله عليه وآله وسلم مع أمره له بذلك عند صلح الحديبية أيضًا وقال: "والله لا أمحوك أبدًا" وفي رواية: "ما أنا بالذي أمحاه"، وعملا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ» «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ» «مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ» إلى غير ذلك، وقول ابن مسعود رضي الله عنه: "إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَأَحْسِنُوا الصَّلاَةَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ لَعَلَّ ذَلِكَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ، وقُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلاَتَكَ وَرَحْمَتَكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ..." إلخ (47 )، إلى غير ذلك، ونصوا على أن القائل بإسقاط السيادة من اسمه الشريف يُؤَدَّب الأدبَ الشديد، وممَّن نَصَّ على ذلك: العلمي في "نوازله" من جوابٍ لبعضهم، ويؤيده قضية ابن عبد السلام مع الطالب الذي قال لا يزاد في الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم ذِكْر "سيدنا"، حيث أمَرَ بسجنه وأن يؤدب، فاختفى حتى شُفِع فيه، فخلَّى سبيله لكونه رأى أن فراره وتغيبه والشفاعة فيه أدب له، وقد ذكر قضيتَه الأُبِّيُّ في "إكمال الإكمال" وصاحب "المعيار" وغيرُ واحد" (48 ) اهـ.
إلى غير ذلك من النقول المتكاثرة عن السادة المالكية في هذا المعنى والتي نقلها وغيرَها العلاّمة الحافظُ السيِّد أحمد بن الصِّدِّيق الغماري في مصنَّفه المفرد لهذه المسألة.
ومن السادة الشافعية:
قال العـلامة المحقق الجـلال المحلي [ت864هـ]: "الأدب مع مَن ذُكِرَ -يعني النبيَّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم - مطلوبٌ شرعًا بذكر السيد؛ ففي حديث الصحيحين: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكم»(49 ) أي: سعد بن معاذ، وسيادتُه بالعِلْم والدين، وقول المصلِّي "اللهم صَلِّ على سيدنا محمَّد" فيه الإتيان بما أُمِرنا به وزيادةُ الإخبار بالواقع الذي هو أدب، فهو أفضل مِن تركه فيما يظهر من الحديث السابق، وإن تردد في أفضليته الشيخ جمال الدين الإسنوي، وذَكَر أنَّ في حفظه قديمًا أنَّ الشيخ ابن عبد السلام بناه على أنَّ الأفضل سلوك الأدب أو امتثال الأمر، وأما حديث "لا تُسَيِّدُوني في الصلاة" فباطل لا أصل له كما قاله بعض متأخري الحفاظ" (50 ) اهـ.
وقال الإمام المحدِّث برهان الدين الناجي الشافعي [ت900هـ] في كتابه "كنز الراغبين العُفاة في الرمز إلى المولد المحمدي والوفاة": "وأمَّا النقل عن سيد الورَى: "لا تُسَوِّدُوني في الصلاة" فكَذِبٌ مُوَلَّدٌ مفترَى، والعوامُّ مع إيرادهم له يلحنون فيه أيضًا فيقولون: "لا تُسَيِّدُوني" بالياء، وإنما اللفظة بالواو" (51 ) اهـ.
وسُئِلَ الحافظ الجلال السيوطي [ت911هـ] عن هذا الحديث -كما في "الحاوي للفتاوي"- فأجاب بأنه لم يَرِد ذلك (52 ).
وقال الإمام الشهاب أحمد الرملي [ت957هـ] في حاشيته على "شرح الروض" لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري:
"قال ابن ظهيرة: الأفضل الإتيان بلفظ السيادة كما صرح به جمع، وبه أفتى الجلال المحلي جازمًا به، قال: لأن فيه الإتيان بما أُمِرْنا به وزيادة الإخبار بالواقع الذي هو أدب؛ فهو أفضل مِن تركه، وإن تردد في أفضليته الإسنوي"اهـ وحديث "لا تسيدوني في الصلاة" باطل لا أصل له كما قاله بعض متأخري الحفاظ.
وقوله (الأفضل الإتيان بلفظ السيادة) أشار -يعني الشهاب الرملي- إلى تصحيحه" (53 ) اهـ.
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي [ت973هـ] في "الدر المنضود في الصلاة والسلام على صاحب المقام المحمود": "في زيادة "سيدنا" قبل "محمد" خلاف، فأما في الصلاة فقال المجد اللغوي: الظاهر أنه لا يقال؛ اقتصارًا على الوارد، وقال الإسنوي: في حفظي أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام بناه على أن الأفضل امتثال الأمر أو سلوك الأدب، فعلى الثاني يستحب اهـ، وهذا هو الذي مِلتُ إليه في "شرح الإرشاد" وغيره؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لَمَّا جاء وأبو بكر رضي الله تعالى عنه يَؤُمُّ الناس، فتأخَّر، ثم أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يثبت مكانه، فلم يَمتثل، ثم سأله بعد الفراغ من ذلك، فأبدى له أنه إِنَّما فعله تأدُّبًا بقوله: "ما كان ينبغي لابن أَبِي قحافة أن يتقدَّم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم" (54 )، فأقره صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك، وهذا فيه دليلٌ أيُّ دليلٍ على أن سلوك الأدب أَولى من امتثال الأمر الذي عُلِم من الآمر عدمُ الجزم بقضيته، ثم رأيتُ عن ابن تيمية أنه أفتى بتركها وأطال فيه، وأن بعض الشافعية والحنفية ردوا عليه وأطالوا في التشنيع عليه وهو حقيق بذلك، وورد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا وموقوفًا -وهو أصح-: "أَحسِنُوا الصَّلاةَ على نَبِيِّكم" (55 )، وذكر الكيفية وقال فيها: "على سَيِّدِ المُرسَلِين"، وهو شاملٌ للصلاة وخارجها..." ثم نقل كلام الجلال المحلي السابق، ثم قال: "ووقع لبعضِ مَن كَتَبَ على الحاوِي أنه قال إن زيادة "سيدنا" مبطلة للصلاة، وهو غلط واضح فاجتنبه"(56 ) اهـ.
وقال أيضًا في "شرح الإرشاد": "ولا بأس بزيادة (سيدنا) قبل (محمد)، والنهي عنه لا أصل له" (57 ) اهـ.
وقال العلامة ابن قاسم العبادي [ت994هـ] في حاشيته على "تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي ما نصه: "واعتمد الجلال المحلي في غير شرحه أن الأفضل زيادتها وأطال في ذلك، وقال: إن حديث "لا تسيدوني في الصلاة" باطل" (58 ) اهـ.
و قال الشرواني في حاشيته على "تحفة المحتاج" أيضًا:
"عِبَارَةُ شَرْحِ بَافَضْلٍ: وَلا بَأْسَ بِزِيَادَةِ (سَيِّدِنَا) قَبْلَ (مُحَمَّدٍ) اهـ، وَقَالَ "المُغْنِي": ظَاهِرُ كَلامِهِمْ اعْتِمَادُ عَدَمِ اسْتِحْبَابِهَا اهـ، وَتَقَدَّمَ عَنْ شَيْخِنَا أَنَّ الْمُعْتَمَدَ طَلَبُ زِيَادَةِ السِّيَادَةِ، وَعِبَارَةُ الْكُرْدِيِّ: وَاعْتَمَدَ "النِّهَايَةُ" اسْتِحْبَابَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ اعْتَمَدَهُ الزِّيَادِيُّ وَالحَلَبِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَفِي "الإِيعَابِ": الأَوْلَى سُلُوكُ الأَدَبِ، أَيْ: فَيَأْتِي بِـ(سَيِّدِنَا)، وَهُوَ مُتَّجِهٌ اهـ.
قَالَ ع ش: (قَوْلُ م ر لأَنَّ فِيهِ الإِتْيَانَ إلَخ) يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا سَنُّ الإِتْيَانِ بِلَفْظِ السِّيَادَةِ في الأَذَانِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ؛ لأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِ السِّيَادَةِ حَيْثُ ذُكِرَ" (59 ) اهـ.
وقال الإمام زين الدين الملِّيباري [ت987هـ] في "فتح المعين لشرح قرة العين بمهمات الدين": "ولا بأس بزيادة (سيدنا) قبل (محمد)" (60 ) اهـ.
قال محشّيه العلامة السيد البكري أبو بكر عثمان بن محمد شطا الدمياطي [ت1302هـ] في "إعانة الطالبين على حلِّ ألفاظ فتح المعين": "بل هي الأَوْلَى كما تقدَّم -يعني عند قوله في التحيات: "وأشهد أن محمَّدًا رسول الله"؛ فإنه قال: "الأَوْلَى ذِكْر السيادة؛ لأن الأفضل سلوك الأدب، وحديث "لا تسودوني في صلاتكم" باطل-"(61 ) اهـ.
وقال العلامة شمس الدين محمد الرملي [ت1004هـ] في "نهاية المحتاج": "والأفضل الإتيان بلفظ السيادة، كما قاله ابن ظهيرة وصرَّح به جَمعٌ، وبه أفتى الشارح -يعني الجلال المحلي-؛ لأن فيه الإتيان بما أُمِرنا به وزيادةَ الإخبارِ بالواقع الذي هو أدب، فهو أفضل مِنْ تَرْكِه، وإن تردد في أفضليته الإسنوي، وأما حديث "لا تسيدوني في الصلاة" فباطل لا أصل له كما قال بعض متأخري الحفاظ، وقول الطوسي إنها مبطلة غلط" (62 ) اهـ.
قال العلامة نور الدين علي الشَّبْرَامَلِّسِي [ت1087هـ] في حاشيته عليه: "(قولُه: لأَنَّ فيه الإتيانَ... إلَخ) يُؤخَذُ مِن هذا سَنُّ الإتيانِ بلَفظِ السِّيادةِ في الأَذانِ، وهو ظاهِرٌ؛ لأَنَّ المَقصُودَ تَعظِيمُه صلى اللهُ عليهِ وآله وسلم بوَصفِ السِّيادَةِ حيثُ ذُكِرَ.
لا يُقالُ: لم يَرِد وَصفُهُ بالسِّيادةِ في الأَذانِ؛ لأَنّا نَقُولُ: كذلكَ هنا، وإنَّما طُلِبَ وَصفَه بها للتَّشرِيفِ، وهو يَقتَضِي العُمُومَ في جَمِيعِ المَواضِعِ التي يُذكَرُ فيها اسمُه علَيه الصَّلاةُ والسَّلامُ" (63 ) اهـ.
وقال العلاّمة محمد بن علي ابن علان البكري الصّدِّيقي [ت1057هـ] في "شرح الأذكار للإمام النووي": "خاتمة: قال الإسنوي: اشتهر زيادة (سيدنا) قبل (محمَّد)، وفي كونه أفضل نظر، وفي حفظي أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام بناه على أن الأفضل سلوك الأدب أو امتثال الأمر؛ فعلى الأوَّل يُستَحب دون الثاني اهـ، وبِتَأَمُّل تَأَخُّر الصدِّيق رضي الله عنه لَمّا ائتم به صلى الله عليه وآله وسلم مع قوله "مكانك"، وكذا إقراره على ذلك، وامتناع علي رضي الله عنه في وقعة الحديبية من محوه لاسمه صلى الله عليه وآله سلم مع أَمْرِه له بِمَحْوِه فقال "والله لا أمحوه"، يُعلَم أن الأَولى سلوك الأدب، وهو متجه، وإن قال بعضهم الأشبه الاتباع، ولا يُعرَف إسنادُ ذلك إلى أحد من السلف اهـ.
وإنكاره صلى الله عليه وآله وسلم على مَن خاطبه بذلك إنما هو لكونه ضم إليه ألفاظًا من ألفاظ الجاهلية وتحياتهم كما يُعرف ذلك بمراجعة الحديث، وقد صحَّ حديث «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ»، وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا وموقوفًا -وهو أصح- "أحسنوا الصلاة على نبيكم" وذكر كيفيةً منها: "اللَّهُمَّ صَلِّ علَى سيِّدِ المرْسَلِينَ"، وحديث "لا تسيدوني في الصلاة" موضوع، وقول بعض الشافعية: "إن ذلك مُبطِل للصلاة" غلطٌ فلا يُقال ينبغي مراعاتُه، وفي شرح مسلم للأُبِّي: اتفق أن طالبًا قال: لا يُزاد في الصلاة (سيدنا)؛ لأنه لم يَرِد، وإنما يُقال (اللهم صل على محمد)، فنقمها عليه الطلبة، وبلغ الأمر إلى القاضي ابن عبد السلام، فأرسل وراءه الأعوان، فاختفى مدة حتى شفع فيه حاجب الخليفة، فخلي عنه، وكأنه رأى أن تغيُّبه تلك المدة عقوبته اهـ، قال بعض الأئمة المحققين من المتأخرين: قول المصلي (اللهم صل على سيدنا محمد) فيه الإتيان بما أُمِرنا به وزيادة الإخبار بالواقع الذي هو أدبٌ؛ فهو أفضل من تركه فيما يظهر من الحديث السابق، وإن تردد في أفضليته الإسنوي اهـ، وبه يُرَدُّ ما وقع لصاحب القاموس ميلاً إلى ما أطال به ابن تيمية وغيره في ذلك" (64 ) اهـ.
وقال الإمام أحمد بن محمد السحيمي القلعاوي الشافعي [ت1178هـ] في شرحه على شرح عبد السلام على "جوهرة التوحيد": "فإن قلت: ما الحكمة في ذكر السيد في هذا الحديث وعدم ذكره في حديث الشيخين حين قالت الصحابة: كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ»؟
أُجيب: بأن الأول مقام إخباره عن مرتبته ليُعتَقَدَ أنه كذلك، ولتعلم أمَّتُه أنه أول من يفتح باب الشفاعة فيأتوه ولا يذهبوا إلى نبي بعد نبي كغيرهم من الأمم، فكل مَن بلغته هذه السيادة لا يتعب يوم القيامة في ذهابه إلى الأنبياء لطلب الشفاعة منهم، وما ذهب إليهم إلا مَن لم تبلغه، والثاني مقام تعليم الصلاة عليه، وليس مِن شرطه ذكر السيد، وإن كان الأفضل ذكره مراعاةً للأدب، ولا يقال امتثال الأمر أفضل من الأدب؛ لأنا نقول: في الأدب امتثال الأمر وزيادة، والظاهر أن الأفضل ذكره في غير نبينا من الأنبياء أيضًا، وحديث "لا تسودوني في صلاتكم" باطل، وقولهم "لا تسيدوني" بالياء لحن، والصواب بالواو" (65 ) اهـ.
وقال العلامة محمد بن عبد الله الجرداني الدِّمياطي [ت1331هـ] في "فتح العلام بشرح مرشد الأنام" عند قوله في التشهد: (وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله): "يُغتفَر زيادة (سيدنا) قبل (محمَّد)، بل هو الأفضل هنا وفي الصلاة عليه الآتية سلوكًا للأدب؛ خلافًا لمن قال: الأولى ترك السيادة؛ اقتصارًا على الوارد، والمعتمد الأول، وأما حديث "لا تسودوني في الصلاة" بالواو لا بالياء فباطل كما في الباجوري" (66 ) اهـ.
وقال شيخ الإسلام البرهان إبراهيم الباجوري الشافعي [ت1277هـ] في "حاشيته على شرح ابن قاسم على متن أبي شجاع": "الأََولَى ذِكرُ السيادة؛ لأن الأفضل سلوك الأدب، خلافًا لمَن قال: الأَوْلَى ترك السيادة؛ اقتصارًا على الوارد، والمعتمَد الأول, وحديث "لا تُسَوِّدُوني في صلاتِكم" بالواو لا بالياء باطل" (67 ) اهـ.
وكُتُبُ الشافعية ممتلئة بأفضلية السيادة في الأذان والإقامة والتشهد- على تركها.
ومن غير أصحاب المذاهب الفقهية:
يقول العلامة محمد بن علي الشوكاني [ت1250هـ] في "نيل الأوطار": "وقد رُوِيَ عن ابن عبد السلام أنه جعله من باب سلوك الأدب، وهو مبني على أن سلوك طريق الأدب أحب مِن الامتثال، ويؤيده حديث أبي بكر حين أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يثبت مكانه فلم يمتثل وقال: "ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدَي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"، وكذلك امتناع علي عن محو اسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مِن الصحيفة في صلح الحديبية بعد أن أمره بذلك، وقال: "لا أمحو اسمَك أبدًا"، وكلا الحديثين في الصحيح؛ فتقريره صلى الله عليه وآله وسلم لهما على الامتناع مِن امتثال الأمر تأدُّبًا مُشعِرٌ بأَولَوِيَّتِه"(68 )اهـ.
بينما يرى بعض العلماء أولوية الاقتصار في الألفاظ المتعبَّد بها على ما ورد؛ اتباعًا للّفظ الوارد وفِرارًا مِن الزيادة فيه، واحتجوا بعدم ورود ذلك عن الصحابة والتابعين والسلف الصالحين، وأن ذلك لو كان راجحًا لورد عنهم. ومن هؤلاء العلماء ابن تيمية [ت728هـ]، وابن مفلح [ت763هـ] الحنبليان، والمجد الفيروزآبادي [ت817هـ] صاحب "القاموس"، والإمام الأذرعي وقال: إنه الأشبه(69 )، ورجحه الحافظ أبو الفضل ابن حجر العسقلاني [ت852هـ](70 )، وادَّعى بعض المتأخرين بِدعِيَّتَها وحرمتها كالسهسواني الهندي [ت1326هـ](71 )، والشيخ جمال الدين القاسمي [ت1332هـ](72 ).
ومن الفقهاء المتأخرين مَن مال إلى أفضلية ذِكْرها في التشهد وتَرْكها في الأذان من غير تحريم كما هو رأي الشريف أحمد بن المأمون البُلغيثي [ت1348هـ] (73 )، والحافظ محمد بن جعفر الكتاني من المالكية رحمهما الله تعالى (74 ).
قال الحافظ ابن حجر في فتوى له جوابًا لسؤالٍ عن حكم زيادة السيادة عند ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة وخارجها: "لو كان ذلك راجحًا لجاء عن الصحابة ثم عن التابعين، ولم نقف في شيء من الآثار عن أحد من الصحابة ولا التابعين لهم قال ذلك، مع كثرة ما ورد عنهم من ذلك... نعم ورد في حديث ابن مسعود أنه كان يقول في صلاته على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "اللَّهُمَّ اجْعَلَ فَضَائِلَ صَلَواتِكَ ورَحْمَتِكَ وَبَرَكَاتِكَ علَّى سَيِّدِ المرْسَلِينَ... الحديث أخرجه ابن ماجه، ولكن إسناده ضعيف" اهـ نقلاً عن صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للألباني (75 ).
والخلاف إنما هو في الأفضلية لا في الجواز؛ فإن الجميع متفقون على جواز كلا الأمرين، وأما مَن ادَّعى من المتأخرين تحريم زيادة السيادة فهو غير مسبوق في دعواه هذه ومحجوجٌ بأن العلماء إنما اختلفوا في الأفضلية مع قطعهم بغلط من ادَّعى بطلان الصلاة بذكرها؛ وهذا المعنى واضح في عبارة الإمام الأذرعي حيث يقول في كتابه "التوسط": "الأشبه الاتباع" (76 )، وفي عبارة الحافظ ابن حجر حيث يقول في أول فتواه جوابًا لسؤالٍ عن حكم زيادة السيادة في الصلاة وخارجها: "نعم؛ اتباع الألفاظ المأثورة أرجح" اهـ، ومن المقرر في اللغة أن "أفعل" التفضيل يفيد الاشتراك بمادته والتفاضل بصيغته، أي: أنه يقتضي اشتراك المفضَّل والمفضَّل عليه في أصل الحدَث وزيادةَ المفضَّل على المفضَّل عليه فيه.
وأجاب الجمهور عمَّا احتجَّ به مَنْ رَجَّح ترك السيادة بأجوبة منها:
1- أن الأدلة الشرعية الدالَّة على وجوب تعظـيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوقيره، وتسـويده، والنهي عن مخاطبته، أو ذكره كما يخاطب أو يذكر بعضـنا بعضًا جاءت عـامة لا مخصِّصَ لها، فيُشرَع امتثالُها في كل موضعٍ جرى فيه ذكرُه صلى الله عليه وآله وسلم؛ حملا للمطلَق على المقيَّد، ولم يرد في الشرع ما يُخرِج الأذانَ أو الإقامةَ أو الصلاةَ من ذلك، غاية ما في الأمر أنَّ تَرْك ذِكْرِها في ألفاظ الأذان والإقامة والتشهد في السنة النبوية الشريفة قولا وتقريرًا يدل على عدم وجوبها لا على عدم مشروعيتها؛ جمعًا بين الأدلة الشرعية؛ لأنه لا يُلجَأ إلى الترجيح إلا عند تعذُّر الجمع.
2- أن كثيرًا من العبادات الشرعية تؤخَذ أحكامها من الأدلة الشرعية المتعددة، منها ما يدل عليها بخصوصه، ومنها ما يدل بعمومه، ومنها ما يدل بمنطوقه، ومنها ما يدل بمفهومه، ولا توجد أحكامها مجموعةً في دليل واحد، فوجوب القراءة في الصلاة مثلا جاء من دليل، وتعيُّن قراءة الفاتحة فيها جاء من دليل آخر، ووجوب أداء الصلاة جاء في القرآن، وأعدادها وأوقاتها وأركانها وركعاتها إنما أُخِذَت من السنة، ولفظ الأذان جاء في حديث، والترجيع فيه أُخذ من حديثٍ آخر... وكذلك في هذه المسألة؛ ألفاظ التشهد والأذان جاءت في موضع، والأمر بتعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتسويده اعتقادًا ونطقًا جاء في موضع آخر، وليس في كلا الأمرين ما ينافي الآخر أو يناقضه؛ لأن صاحب الشرع الذي علَّم الناس ألفاظ الأذان والتشهد هو الذي ندب إلى أن يُسوَّد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ويُعظَّم في كل موضع، وهذه الألفاظ قيلت على سبيل التعليم، واستحباب التسويد خرج مخرج التعميم، فيُحمَل المطلَق على المقيَّد، والجمع بين الدليلين ليس زيادةً في الشرع بل هو مقدَّم على العمل بأحدهما وحدَه، فتعيَّن العمل بالأمرين معًا.
3- أنه لا يصح الاحتجاج بمجرَّد الترك على التحريم أو الكراهة، لا سيما فيما له أصل صحيح متقررٌ في الشرع لا مخصِّصَ له كتعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سواء كان ذلك الترك من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو من صحابته الكرام، بل غايته أن يُستَدل به على عدم الوجوب؛ فليس كل ما ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فِعْله يكون حرامًا أو مكروهًا، ومن باب أوْلَى ليس كل ما تَرَكَه السلف حرامًا أو مكروهًا، بل قد يكون تَرْكهم لهم أمْرًا اتفاقيًّا لا مواطأة فيه، وقد يكون لأنه حرام، أو لأن غيره أفضل منه، أو لغير ذلك من الاحتمالات، وما تطرق إليه الاحتمال بَطَلَ به الاستدلال.
يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: "كل ما له مستند من الشرع فليس ببدعة ولو لم يعمل به السلف؛ لأن تَرْكهم للعمل به قد يكون لعذر قام لهم في الوقت، أو لِمَا هو أفضل منه، أو لعله لم يبلغ جميعَهم عِلْمٌ به" (77 ).
وقال الإمام أبو سعيد بن لُبٍّ المالكي في الرد على مَن كَرِه الدعاء عقب الصلاة: "غاية ما يستند إليه منكر الدعاء أدبار الصلوات أن التزامه على ذلك الوجه لم يكن من عمل السلف، وعلى تقدير صحة هذا النقل فالترك ليس بموجِبٍ لحكمٍ في ذلك المتروك إلا جواز الترك وانتفاء الحرج فيه، وأمَّا تحريمٌ أو لصوقُ كراهيةٍ بالمتروك فلا، ولا سيما فيما له أصلٌ جُمْلي متقرر من الشرع كالدعاء" اهـ نقلاً عن رسالة السيد الحافظ عبد الله بن الصِّدِّيق الغماري "حسن التفهم والدرك لمسألة الترك" (78 ).
4- أن ذِكْر السيادة عند اسم الشخص المشرَّف والموقَّر من تمامه وكماله عادةً وعرفًا، سواءٌ في ذلك مخاطبتُه في حضورِه وذكرُه في غيبته، كما أن ترك ألقاب التوقير مما يُلام عليه بحيث قد يتهم فاعل ذلك بمخالفة الأدب، وخاصة في هذه العصور المتأخرة التي صار ذكر السيادة في عُرْف أهلها من لوازم التقدير والاحترام، وقد جاء الشرع الشريف باعتبار العرْف فيما لا يخالف الشرع، فقال سبحانه وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199]، ومع كثرة ألقاب التفخيم في عصرنا هذا فليس من اللائق أن لا نذكر السيادة مع المصطفى سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ هو الحقيقُ بها في كل موطنٍ يُذكَر فيه صلى الله عليه وآله وسلم.
5- أن دعوى عدم الورود ليست صحيحة؛ فقد وردت السيادة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصحابيين الجليلين عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
فعن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: "إذا صلَّيتُم علَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَأحْسِنُوا الصَّلاَةَ علَيه؛ فإنَّكم لا تدرُونَ لعلَّ ذلك يُعْرَضُ عليه"، فَقَالُوا لَهُ: فَعَلِّمْنَا، قال: "قُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلاَتَكَ وَرَحْمَتَكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، إِمَامِ الْخَيْرِ وَقَائِدِ الْخَيْرِ وَرَسُولِ الرَّحْمَةِ، اللَّهُمَّ ابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَغْبِطُهُ بِهِ الأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" رواه ابن ماجه في "السنن" وابن جرير الطبري في "تهذيب السنن والآثار" وأبو يعلى في "مسنده" والطبراني في "المعجم الكبير" والدارقطني في "العِلَل" وأبو نعيم في "الحلية" والبيهقي في "الدعوات" و"الشعب"، كلهم من طريق المسعودي، عن عون بن عبد الله، عن أبي فاختة مولى جعدة بن هبيرة المخزومي، عن الأسود بن يزيد، عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفًا، وحسّنه الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" والحافظ الهيثمي في "إتحاف الخِيَرَة"، وصححه الحافظ مغلطاي (79 ).
قال شيخ الشافعية العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي في "الدر المنضود": "وهو شامل للصلاة وخارجها" (80 ).
وقد سبق ذِكْر ما نقله الإمام ابن المنذر عن الإمام الحافظ إسحاق بن راهويه من أن أحب صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليه في صلاة الجنازة ما وَصَفَه به ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في هذا الأثر، وجعله أجمل ما جاء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا يقتضي إثباته لهذه الرواية وصحة العمل بها.
أما تضعيف الحافظ ابن حجر لهذا الرواية فهو راجع إلى اختلاط راويه المسعودي عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، وهذا التضعيف متعقَّبٌ من وجهين:
الأول: أنهم إنما أخذوا على المسعودي غلطه فيما يرويه عن صغار شيوخه كعاصم بن بهدلة وسلمة بن كُهيل والأعمش، ولكن ذلك ليس عامًّا في كل رواياته، بل صححوا له رواياته عن كبار مشايخه من المسعودِيِّينَ كالقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وأخيه معن، وعون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود؛ ولذلك قال علي بن المديني: "المسعودي ثقة، وقد كان يغلط فيما روى عن عاصم بن بهدلة، وسلمة، ويصحح فيما روى عن القاسم ومعن"، وقال يحيى بن معين: "أحاديثه عن عون وعن القاسم صحاح" (81 )، وقال أبو زرعة الرازي: "أحاديثه عن غير القاسم وعون مضطربة؛ يهم كثيرًا" (82 )، وقال الإمام الدارقطني: "المسعودي إذا حدَّث عن أبي إسحاق وعمرو بن مرة والأعمش فإنه يغلط، وإذا حدث عن معن والقاسم وعون فهو صحيح، وهؤلاء هم أهل بيته" اهـ من سؤالات السُّلمي (83 ).
وهذا الحديث من رواية المسعودي عن عون بن عبد الله، فهو مما صح من رواياته.
الثاني: أنهم نصوا على أن المسعودي من أعلم الرواة بعلم ابن مسعود رضي الله عنه، قال مِسعَرٌ وابن عيينة: "ما أعلم أحدًا أعلم بعلم ابن مسعود من المسعودي" (84 )، وأن الضعف فيه إنما هو بعد اختلاطه لا قبل ذلك، قال الإمام أحمد: "سماع وكيع من المسعودي بالكوفة قديم، وأبو نعيم أيضًا، وإنما اختلط المسعودي ببغداد، ومَن سمع منه بالكوفة والبصرة فسماعه جيد" (85 )، وهذا الحديث مما رُوِيَ عنه قبل الاختلاط؛ فقد سمعه منه جماعة من المحدِّثين الثقات منهم: وكيع بن الجرَّاح الكوفي (كما عند الدارقطني في "العِلَل") (86 )، وأبو نعيم الفضل بن دُكَين الكوفي وعبد الله بن رجاء الغُدَاني البصري (كما عند الطبراني في "المعجم الكبير") (87 )، والأعمش سليمان بن مهران الكوفي (كما عند الدارقطني في "العلل") (88 )، وجعفر بن عون الكوفي (كما عند البيهقي في "الدعوات الكبير") (89 )، وزياد بن عبد الله البكائي الكوفي (كما عند ابن ماجه في السنن) (90 )، وزيد بن الحُباب الكوفي (كما عند البيهقي في "الشعب") (91 )، وأبو سعيد مولى بني هاشم البصري (كما عند أبي يعلى في "مسنده") (92 )، فهؤلاء ثمانية ليس فيهم بغدادي، كلهم سمعوا منه قبل الاختلاط، وممن نُصَّ على جهة الخصوص من هؤلاء أنه سمع منه قبل الاختلاط: وكيع، وأبو نعيم، وعبد الله بن رجاء، وجعفر بن عون (93 )، وتضعيف أحاديث المسعودي جملةً من التشديد الذي لا يرضاه المحدثون؛ قال الحافظ العراقي في "التقريب والإيضاح": "قد شدَّد بعضهم في أمر المسعودي ورد حديثه كله؛ لأنَّه لا يتميَّز حديثه القديم من حديثه الأخير.. والصحيح ما قدمناه: من أن من سمع منه بالكوفة والبصرة قبل أن يَقدَم بغداد فسماعه صحيح" (94 ) اهـ.
وأما الرواية عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: فرواها أحمد بن منيع في "مسنده" وإسماعيل بن إسحاق القاضي في "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم" والمحاملي في "أماليه": من طريق هُشَيْم، حدثنا أبو بلج الفزاري، حدثنا ثُوَيْرٌ مولى بني هاشم قال: قلت لابن عمر: كيف الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال ابن عمر: "اللهم اجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين، محمد عبدك ورسولك، إمام الخير وقائد الخير، اللهم ابعثه يوم القيامة مقامًا محمودًا يغبطه الأولون والآخرون، وصل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد" (95 ).
6- والجواب عمن قصر الأفضلية على التشهد دون الأذان: أن الدليل الشرعي الخارجي الذي دل على استحباب ذِكْر السيادة في التشهد -مع عدم ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها فيه- دالٌّ أيضًا على استحباب ذكرها في الأذان والإقامة من غير فرْق، كما أن المقصود الأعظم من الأذان الإعلامُ بدخول وقت الصلاة، وهذا المقصود لا ينافيه التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه بذكر سيادته الدالَّة على تعظيمه وشرف قدره صلى الله عليه وآله وسلم، ومع تسليم أن ذِكْر السيادة في الأذان زيادة فيه فإن الشرع قد أذن بالزيادة في الأذان عند الحاجة، كما في نادى منادي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله في الأذان: "صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ" (96 )، وكما زاد سيدنا بلال رضي الله عنه التثويب في أذان الصبح وهو قوله: "الصَّلاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ"، وأقره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك وقال له: «مَا أَحْسَنَ هَذَا يَا بِلالُ! اجْعَلْهُ فِي أَذَانِك» رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (97 )، ولو كانت مثل هذه الزيادة اليسيرة للحاجة غير جائزة في الأذان لأنكر عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزيادة من حيث هي، فلَمَّا استحسنها كان ذلك دليلا على أن مثل هذا مُغْتَفَرٌ في الأذان، بل أجاز بعض الحنفيَّة وبعض الشَّافعيَّة التَّثويب في الصَّبح والعشاء (98 )؛ لأنَّ العشاء وقت غفلة ونوم كالفجر، بل أجازه بعض الشَّـافعيَّة في جميع الأوقات؛ لفرط الغفلة على النَّاس في زماننا (99 )، وقد استحدث علماء الكوفة من الحنفيَّة بعد عهد الصَّحابة تثويبًا آخر، وهو زيادة الحيعلتين أي عبارة "حيَّ على الصَّلاة، حيَّ على الفلاح" مرَّتين بين الأذان والإقامة في الفجر، واستحسنه متقدِّمو الحنفيَّة في الفجر فقط، وكُرِهَ عندهم في غيره، والمتأخِّرون منهم استحسنوه في الصّلوات كلّها -إلا في المغرب لضيق الوقت- وذلك لظهور التَّواني في الأمور الدّينيّة، وقالوا: إنَّ التَّثويب بين الأذان والإقامة في الصَّلوات يكون بحسب ما يتعارفه أهل كلّ بلد؛ بالتّنحنح، أو الصّلاةَ الصّلاةَ، أو غير ذلك (100 )، وأجاز جماعة من السلف الكلامَ في الأذان، بل اتفق الفقهاء على جوازه للحاجة إذا كان يسيرًا وأنه لا يبطل به الأذان (101 ).
ولفظ "سيدنا" في الأذان أخف من ذلك كله، مع كون الحاجة إلى ذكره أدعَى وأولَى في هذه العصر الذي تعيَّنَتْ فيه الألقاب في ذكر الأسماء والتخاطب بين الناس عرفًا، خاصة لذوي المنزلة والمكانة بينهم، فصح بذلك استحبابُ ذكر السيادة في الأذان والإقامة.
وقد نص على خصوص استحباب ذكر السيادة في الأذان والإقامة المتأخرون من الشافعية؛ كالشيخ الشبرامَلِّسي والجمل والشرواني في حواشيهم الفقهية كما سبق النقل عنهم، وكذلك أفتى به شيخ المالكية في عصره الإمام أبو محمد عبد القادر الفاسي، وكان عليه العمل ببعض مدن الإسلام كالقدس ودِمياط وغيرهما (102 ).
وقد ألَّف العلاّمةُ شهاب الدين أحمد بن يونس الحِميَرِي القُسَنْطيني الجزائري المغربي المالكي [ت878هـ] رسالةً في ترجيح ذِكر السيادة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة وغيرها، كما ذكر الحافظ السخاوي في ترجمته مِن "الضوء اللامع" (103 )، وجاء العلامة الحافظ أبو الفيض أحمد بن الصِّدِّيق الغُمّاري الحَسَنِي رحمه الله [ت1380هـ] فألف في هذه المسألة كتابًا حافلاً ماتعًا سماه [تشنيف الآذان بأدلة استحباب السيادة عند ذكر اسمه صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة والإقامة والأذان] جَمَع فيه كلَّ ما يتعلق باستحباب ذِكر الاسم الشريف مقترنًا بالسيادة، مقرِّرًا أنه لا تَنافيَ بين الأدب والاتباع؛ لأن في السيادة اتباعًا للأمر بتوقيره صلى الله عليه وآله وسلم والنهي عن مخاطبته كما يخاطِب الناسُ بعضُهم بعضًا، وليس في الشرع نهي عن تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأذان أو الصلاة، بل من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم أنه هو وحده الذي يمكن أن يخاطبه المصلي دون أن يخرج من صلاته كما سبق.
ومما سبق ومِن النظر في كتب المذاهب الفقهية المعتمَدة يُعلَم أنه ذهب إلى استحباب تقديم لفظ (سيدنا) قبل اسمه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة والأذان والإقامة وغيرها من العبادات جمهور فقهاء المذاهب الفقهية وغيرهم ممن يُعَدُّ اتهامُهم بالبدعة ومخالفة السنَّة نوعًا من الهوى والتعصب المقيت الذي لا يرضاه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم:
فممن اختار ذلك من السادة الحنفية: النجم القحفازي، والحصكفي، والحلبي، والطَحطاوي، وابن عابدين.
ومن السادة المالكية: سيدي أبو الفتح ابن عطاء الله السكندري، والشهاب الحِميَري، والأُبِّي، والسنوسي، والونشريسي، وأبو العباس البوني، والعقباني،