المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سيدي أبو الحسن الشاذلي رضى الله عنه


الرفاعي
09-08-2024, 03:52 AM
سيدي أبو الحسن الشاذلي رضى الله عنه (591- 656هـ)

شيخ الطريقة الشاذلية، صاحبُ الإشارات العلية، والأنوار المحمدية، الحامل في زمانه لواء العارفين، منشئ معالم الطريقة ومظهر أسرارها، ومبدئ علوم الحقيقة بعد خفاء أنوارها، الدَّالُّ على الله وعلى سبيلِ جنته، والدَّاعي على علمٍ وبصيرة إلى جنابه وحضرته، أوحدُ أهل زمانه علمًا وحالًا، ومعرفة ومقالًا، الحسيبُ ذو النِّسبتين الطاهرتين الروحية والجسمية، المحمدي العلوي الحسني الفاطمي، الصحيح النسبتين، الكريم العنصرين، الأستاذُ الواصل المرّبي الكامل أبو الحسن سيدي عليٌّ الشاذلي الحسني بن عبد الله بن عبد الجبار بن تميم بن هرمز بن حاتم بن قصي بن يوسف بن يوشع بن ورد بن بطال بن علي بن أحمد بن محمد بن عيسى بن إدريس المُبايع له ببلاد المغرب ابن عبد الله بن الحسن المثنى ابن سيد شباب أهل الجنة وسبط خير البرية أبي محمد الحسن بن أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ومولاتنا فاطمة الزهراء بنت رسول الله ﷺ.

قال شرف الدين البوصيري في قصيدته المشهورة؛ تطريزًا لهذا النسب:
جد الإمام الشاذلي المنتمي * شرفًا إليه لسيد عن سيد
أسماؤهم عشرون دون ثلاثة * تأتي على نسق كألف الأبجد
(لعليٍّ) (الحسن) انتمى (لمحمد) * (عيسى) وسر (محمد) في (أحمد)
واختار (بطال) (لورد) (يوشعًا) * (وبيوسفٍ) وافى (قصي) يقتدي
(وبحاتم) فتحت سيادة (هرمز) * وغدا (تميم) للمكارم يقتدي
(ولعبد جبار) السماوات انقضى * للفضل (عبد الله) أي مهند
وأتى (علي) في العلا يتلوهم * فاختم به سود العلا والسؤدد
أعني (أبا الحسن) الإمام المجتبى * من هاشم (والشاذلي) المورد

نشأ رضى الله عنه بالمغرب ببني زرويل من الأخماس قرب شفشاون، ومبدأ ظهوره بشاذلة قرية من قرى إفريقية قرب تونس، سكنها مدَّة وإليها نُسب، ونزل الإسكندرية، وحجَّ مرارًا، ومات بصحراء عيذاب قاصدًا الحج، فدفن هناك بحميثرا من الصحراء المذكورة. وذلك في ذي القعدة سنة ست وخمسين وست مئة، وكانت ولادته على الصحيح ببلاد غمارة .كُفَّ بصره في أخريات حياته.

ولقد كان للشاذلي خمسة من الأولاد: ثلاثة من الذكور، واثنتان من الأناث، ورد ذلك في (درة الأسرار) وفي (الدرر البهية)؛ فالذكور : أحمد ، ومحمد ، وعلي ، والإناث: عريفة (أو هي وجيهة)، وزينب.

كان أبو الحسن الشاذلي رضى الله عنه آدم اللون، نحيف الجسم، خفيف العارضين، طويل أصابع اليدين كأنه حجازي، وكان فصيح اللسان عذب الكلام، يلبس الفاخر من الثياب، ويتخذ الخيل الجياد، وكان لا يعجبه الزي الذي اصطلح عليه الفقراء، ولا يتخذ المرقَّعات التي يتخذها الصوفية.

وكان يقول في ذلك: «إنَّ اللباس ينادي على صاحبه؛ فيقول: أنا الفقير فأعطوني. وينادي على سر الفقير بالإفشاء؛ فمن لبس الزي واتخذ المرقعة فقد ادعى، وهو لا يحب الدعوى؛ فلو اتخذ أصحاب المهن لباسًا خاصًّا يتميزون به، واتخذ العلماء لباسًا خاصًّا يفرض على الناس معرفتهم لاحترامهم، واتخذ الحكام مثل ذلك؛ إظهارًا لهيبتهم وإجلالهم؛ فلا يجوز للصوفي -وهو السهل السلس- أن يتخذ لباسًا؛ لأنه ذلك العابد أو الزاهد إذا تميز بالزي افتضح سره وحاله، إن كان ذا يسارٍ تعالى على الناس بدعوى العبادة، وإن كان في عسر فالغنى لا يكون إلا بالله، ولا يصح له السؤال.

ومن أشهر الطُّرق بالمشرق والمغرب طريقتُهُ، وله طريقتان: طريقةُ تبرُّكٍ أخذها عن الشيخ الولي سيدي محمد بن حرازم ابن الأستاذ أبي الحسن علي بن حرازم. وطريقةُ إرادة وهي التي أخذها عن الأستاذ القطب أبي محمد عبد السلام بن مشيش رضى الله عنه، واشتملت طريقتُه على السُّلوك، والجذب، والمُجاهدة، والعناية، والأدب، والقرب، والرعاية، وتشيدت بالعلمين الظاهر والباطن من سائر أطرافها، وقرنت بصفات الكمال شريعةً وحقيقةً من جميع أكنافها.

قال فيه الإمام البوصيري صاحب «البردة» في قصيدة مدحَ بها سيِّدي أبا العباس المُرسي، وشيخَه سيدي أبا الحسن الشاذلي رضي الله عنهما:
إنَّ الإمامُ الشاذليُّ طريقه * في الفضلِ واضحةٌ لعينِ المُهتدي
فانقل ولو قدما على آثاره * فإذا فعلتَ فذاك أخذٌ باليدِ
أَفدي عليًّا بالوجودِ وكلُّنا * بوجوده من كلِّ سوء نفتدي
قطبُ الزَّمان وغوثُه وإمامُه * عينُ الوجود لسانُ سرِّ المُوجِدِ
سادَ الرِّجالَ فقصَّرَت عن شأوه * هممُ المآرب للعُلى والسُّؤدد
فتلقَّ ما يلقي إليك فنطقُه * نطقٌ بروحِ القُدس أيّ مؤيد
وإذا مررتَ على مكان ضريحه * وشممتَ ريح النَّدِّ من تُرب ندي
ورأيتَ أرضًا في الفلاة بخضرةٍ * مُخضَرةٍ منها بقاعُ الغرقد
والوحشُ آمنةٌ لديه كأنَّها * حُشرت إلى حرمٍ بأوَّلِ مسجد
ووجدتَ تعظيمًا بقلبك لو سَرى * في جَلْمَدٍ سجدَ الوَرى للجَلمدِ
فقل: السلامُ عليك يا بحرَ النَّدى * الطَّامي وبحرَ العلم بل والمرشدِ

وقال الشيخ إبراهيم بن محمد بن ناصر الدين بن الميلق:
ولو قِيلَ لي من في الرِّجالِ مُكمَّلٌ * لقلتُ إمامي الشَّاذليُّ أبو الحسنْ
لقد كانَ بحرًا في الشرائع راسخًا * ولا سيَّما علمَ الفرائض والسننْ
ومن مَنهلِ التَّوحيدِ قد عبَّ وارتوى * فللَّه كم أَرْوى قلوبًا بها مِحَنْ
وحاز علومًا ليس تُحصى لكاتبٍ * وهل تحصر الكتاب ما حازَ من فَنْ
فكنْ شاذليَّ الوقتِ تَحظَ بسرِّه * وفي سائر الأوقات مُستغنيًّا بعنْ
فإنِّي له عبدٌ وعبدٌ لعبده * فيا حبذا عبدٌ لعبدِ أبي الحسنْ
إذا لم أَكنْ عبدًا لشيخي وقُدوتي * إمامي وذخري الشاذلي أَكنْ لمنْ
فيا ربِّ بالسرِّ الذي قد وهبتَه * تمنُّ علينا بالمواهب والفطنْ

وما أحسن قول العارف سيدي علي بن عمر القرشي بن الميلق:
أنا شاذليٌّ ما حييتُ فإنْ أَمتْ * فمشورتي في النَّاس أن يَتَشذَّلوا

وقال بعضهم:
تمسَّكْ بحبلِ الشاذليِّ ولا ترد * سواه من الأشياخ إنْ كنتَ ذا لبِّ
فأصحابُه كالشَّمسِ زاد ضياؤها * على النجمِ والبدرِ المُنير من الحبِّ

وقال آخر:
تمسَّكْ بحبِّ الشاذليِّ فإنَّه * له طُرقُ التَّسليك في السرِّ والجهرِ
أبو الحسنِ السَّامي على أهلِ عصرهِ * كراماتُه جلَّتْ عن الحدِّ والحصرِ

وقال آخر:
تمسَّك بحبِّ الشَّاذليِّ فتلقَ ما * تَرومُ وحققْ ذا المناط وحصّلا
توسَّل به في كلِّ حالٍ تُريدُه * فما خابَ من يأتي به متوسِّلا

وفي «طبقات» الإمام الشعراني رضى الله عنه ما نصُّه:
الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضى الله عنه هو علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشاذلي -بالشين والذال المعجمتين، وشاذلة قريةٌ من إفريقية- الضرير، الزاهد، نزيلُ إسكندرية، وشيخ الطائفة الشاذلية، وكان كبيرَ المقدار، عالي المنار، له عباراتٌ فيها رموز.

وصحب الشيخ نجمَ الدين الأصفهاني، وابن مَشيش وغيرهما.

وحجَّ مرَّاتٍ، ومات بصحراء عَيْذاب قاصدًا الحجَّ، فدُفن هناك في ذي القعدة سنة ست وخمسين وست مئة.
وقد أفرده سيدي الشيخُ تاجُ الدين بن عطاء الله هو وتلميذه أبا العباس بالترجمة، وها أنا أذكر لك ملخَّصَ ما ذكره فيها، فأقول وبالله التوفيق: قد ترجم رضى الله عنه في كتاب «لطائف المنن» سيدي الشيخ أبا الحسن رضى الله عنه، بأنَّه قطبُ الزمان، والحاملُ في وقته لواء أهل العيان، حجَّةُ الصوفية، علمُ المهتدين، زين العارفين، أستاذُ الأكابر، زمزم الأسرار، ومعدنُ الأنوار، القطب الغوث الجامع أبو الحسن علي الشاذلي رضى الله عنه، لم يدخل طريق القوم حتى كان يعدُّ للمناظرة في العلوم الظاهرة، وشهدَ له الشيخ أبو عبد الله بن النعمان بالقطبانية.
وكان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد رضى الله عنه يقول: ما رأيتُ أَعرفَ بالله من الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضى الله عنه.

ومن كلامه رضى الله عنه :
– عليك بالاستغفار، وإنْ لم يكن هناك ذنب، واعتبر باستغفار النبيِّ ﷺ بعد البشارة واليقين بمغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر، هذا في معصوم لم يقترف ذنبًا قط وتقدَّسَ عن ذلك، فما ظنُّك بمن لا يخلو عن العيب والذنب في وقت من الأوقات؟

– إذا عارضَ كشفُكَ الكتابَ والسنَّةَ فتمسَّكْ بالكتاب والسنة، ودعِ الكشف، وقل لنفسك: إن الله تعالى قد ضمنَ لي العصمة بالكتاب والسنة، ولم يضمنها لي في جانب الكشف ولا الإلهام ولا المشاهدة إلا بعد عرضه على الكتاب والسنة.

– إذا كثرَت عليك الخواطرُ والوساوس، فقل: سبحان الملك الخلاّق ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ﴾ [إبراهيم: 19، 20].

– من أحصن الحصون من وقوع البلاء على المعاصي الاستغفارُ، قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: 33].

– أسبابُ القبضِ ثلاثةٌ: ذنبٌ أحدثْتَه، أو دنيا ذهبتْ عنك، أو شخص يؤذيك في نفسك أو عرضك، فإن كنتَ أذنبتَ فاستغفر، وإن كنتَ ذهبتْ عنك الدُّنيا فارجع إلى ربِّك، وإن ظُلِمتَ فاصبر واحتمل، هذا دواؤك، وإن لم يُطلعْكَ الله تعالى على سببِ القبض فاسكن تحت جريان الأقدار؛ فإنها سحابةٌ سائرة.

– إذا استحسنتَ شيئًا من أحوالك الباطنة أو الظاهرة، وخفت زواله، فقل: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله.

– إن أردت ألا يصدأ لك قلبٌ، ولا يلحقك همٌّ ولا كربٌ، ولا يبقى عليك ذنبٌ فأكثر من قول: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، لا إله إلا هو، اللهم ثّبت علمها في قلبي، واغفر لي ذنبي.

– إن أردتَ الصدقَ في القول فأكثر من قراءة: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ﴾ [القدر: 1]، وإن أردت الإخلاصَ في جميع أحوالك فأكثر من قراءة ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1]، وإن أردت تيسير الرزق فأكثر من قراءة: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ﴾ [الفلق: 1]، وإن أردت السلامة من الشرِّ فأكثر من قراءة: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ [الناس: 1]. قلت: قال بعضُهم: وأقلُّ الإكثار سبعون مرةً كلَّ يومٍ إلى سبع مئة.

– إذا توجَّهت لشيءٍ من عمل الدنيا والآخرة فقل: يا قوي، يا عزيز، يا عليم، يا قدير، يا سميع، يا بصير.

– إذا وردَ عليك مزيدٌ من الدنيا أو الآخرة فقل: ﴿حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ﴾ [التوبة: 59].

– خصلةٌ واحدةٌ تُحبط الأعمال، ولا ينتبُه لها كثيرٌ من الناس وهي سخط العبد على قضاء الله تعالى، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾.

– حسنتان لا يضرُّ معهما كثرةُ السيئات: الرضا بقضاء الله، والصفحُ عن عباد الله.

– من اعترضَ على أحوال الرجال فلا بدَّ أن يموت قبل أجله ثلاثَ موتات أخر: موتٌ بالذلِّ، وموتٌ بالفقر، وموتٌ بالحاجة إلى الناس، ثم لا يجدُ من يرحمُهُ منهم.

– إن أردتَ ألا يَصدأ لك قلبٌ، ولا يلحقَكَ همٌّ ولا كربٌ، ولا يبقى عليك ذنبٌ فأكثر من الباقيات الصالحات(سبحان الله، الحمدلله ، لا إله إلاالله ، الله أكبر ، لا حول ولا قوة إلا بالله).

– لا يكملُ عالمٌ في مقامِ العلم حتى يُبتلى بأربعٍ: شماتة الأعداء، وملامة الأصدقاء، وطعن الجهال، وحسد العلماء، فإن صبر على ذلك جعله الله إمامًا يُقتدى به.
وكان الشيخ مكين الدين الأسمر رضى الله عنه يقول: الناسُ يدعون إلى باب الله تعالى، وأبو الحسن الشاذلي رضى الله عنه يُدخلُهم على الله.

وكان رضى الله عنه يحضر مجلسَه أكابرُ العلماء؛ كابن الحاجب، وابن عبد السلام عز الدين، وابن دقيق العيد، وعبد العظيم المُنذري، وابن الصلاح، وابن عصفور، فكانوا يحضرون ميعاده بالمدرسة الكاملية من القاهرة، ويقرأ «ابن عطية (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز)» و«الشفا للقاضي عياض» ويمشون بين يديه إذا خرج.
وحج مرارًا.

قال ابن دقيق العيد: ما رأيت أعرفَ بالله منه، ومع ذلك آذوه وأخرجوه وجماعته من المغرب، وكتبوا إلى نائب الإسكندرية: إنه يقدُم عليكم مغربيٌّ زنديق، وقد أخرجناه من ديارنا فاحذروه. فدخل الإسكندرية، فآذوه، فظهرت كرامات أوجبت اعتقاده رضى الله عنه.

(طبقات الشاذلية الكبري – بتصرف)

البدوي
09-10-2024, 05:26 AM
......الفاتحة ...بسم الله