المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المدائح النبوي - ة فتوى لدار الافتاء المصرية


البدوي
10-16-2016, 10:57 AM
المدائح النبوية
التاريخ : 15/09/2015
الســؤال

ما حكم إنشاء وإنشاد قصائد المديح النبوي، ومتى ظهر المديح النبوي، وهل هو خاص بالصوفية كما يدعي البعض؟
الجـــواب

الشعر أصله كلام موزون، وقد تكلم الإمام النووي على حكمه في شرحه (لصحيح مسلم 15/ 14، ط. دار إحياء التراث العربي): «قال العلماء كافة: هو مباح ما لم يكن فيه فحش ونحوه، قالوا: وهو كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، وهذا هو الصواب؛ فقد سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- الشعر واستنشده وأمر به حسان في هجاء المشركين، وأنشده أصحابه بحضرته في الأسفار وغيرها، وأنشده الخلفاء وأئمة الصحابة وفضلاء السلف، ولم ينكره أحد منهم على إطلاقه وإنما أنكروا المذموم منه وهو الفحش ونحوه»، ومن أفضل ما يتكلم به المرء مدح النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو تكرار ذلك أو الاستماع إليه، وهذا ما عرف مؤخرًا بالمديح النبوي، وقد أخرج البخاري عن أبي كعب مرفوعًا: ((إن من الشعر حكمة)). كما استمع -صلى الله عليه وسلم- إلى الشعر، وقد ورد ذلك في عدة أحاديث منها أحاديث في الصحيحين.

وقد ظهر المديح النبوي في العصر النبوي المبارك؛ حيث كان الشعر من الأسلحة المقالية التي يستخدمها العرب حينئذٍ بين الهجاء والثناء، فكان الشعراء من المشركين يهجونه -صلى الله عليه وسلم-، فكان المدح النبوي يرد على هذا الهجاء، ومن هؤلاء الشعراء الذين دافعوا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ومدحوه، وأَقرَّهم على ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حسان بن ثابت، فقد روى الشيخان عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال لحسَّانَ: ((اهْجُهُمْ -أَوْ قَالَ هَاجِهِمْ- وَجِبْرِيلُ مَعَكَ)).

ومَدْحُ الأُمَّةِ للنبي -صلى الله عليه وسلم- دليلٌ على مَحبَّتها له، هذه المحبَّة التي تُعَدُّ أصلا من أصول الإيمان، قال تعالى:﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 24]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ)) صحيح البخاري.

وقال أيضًا: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) صحيح مسلم.
ومحبَّة النبي -صلى الله عليه وسلم- مَظْهَر محبة الله سبحانه، فمن أحبَّ مَلِكًا أحب رسوله، ورسول الله حبيب رب العالمين، وهو الذي جاء لنا بالخير كله، وتحمَّل المتاعب من أجل إسلامنا، ودخولنا الجنة؛ وقد وصفه ربنا في مواضع كثيرة من القرآن بصفات تدل على فضله، منها قوله تعالى:﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4].

وقد عرَّف العلماء المديح النبوي بأنه هو الشِّعْرُ الذي ينصَبُّ على مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- بتعداد صفاته الـخَلْقِيَّة والخُلُقِيَّة، وإظهار الشَّوْق لِرُؤيته، وزيارة قبره والأماكن المقدسة التي ترتبط بحياة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، مع ذِكْرِ مُعْجِزَاته المادية والمعنوية، ونظم سيرته شعرًا، والإشادة بغزواته وصفاته الْمُثلى، والصلاة عليه تقديرًا وتعظيمًا، فهو شعر صادق بعيد عن التزلُّف والتكسُّب، ويرجى به التقرب إلى الله عز وجل، ومهما وصفه الواصفون، فلن يُوَفُّوه حقَّه -صلى الله عليه وسلم-.

قال الشيخ الباجوري -رحمه الله- في (مقدمة شرحه للبردة ص 5- 6، ط. مكتبة الآداب): «إن كمالاته -صلى الله عليه وسلم- لا تُحْصَى، وشمائله لا تُسْتَقصى، فالمادحون لجنابه العلي والواصفون لكماله الجلي مقصِّرون عمَّا هنالك، قاصرون عن أداء ذلك، كيف وقد وصفه الله في كتبه بما يبهر العقول ولا يُسْتَطاع إليه الوصول، فلو بالغ الأوَّلون والآخرون في إحصاء مناقبه لعجزوا عن ضبط ما حباه مولاه من مواهبه»، وقد أحسن من قال:
وَلَو صيغَ فيه كُلُّ عِقدٍ مجوهَرا أَرى كلَّ مَدحٍ في النَبِيِّ مُقَصِّـرا
وَإِن بالَغ المثني عَلَيهِ وَأَكثَرا وَهل يقدر المُدَّاحُ قَدرَ محمَّدٍ
عَلى مَن يَراهُ لِلمَحامِدِ مظهرا إِذا اللَهُ أَثنى بِالَّذي هو أَهلُهُ
عَلَيهِ فَما مِقدار ما تمدح الوَرى وَخَصَّصهُ في رفعه الذكر مُثنيًا


فكل علوٍّ في حقِّهِ -صلى الله عليه وسلم- تقصير، ولا يبلغ البليغ إلا قليلا من كثير.
ولم يقتصر مدحه -صلى الله عليه وسلم- بعد انتشار الإسلام وظهوره، بل إنه قد مُدِح أيضًا في الجاهلية، فقد مدحته أم معبد ووصفت أخلاقه وخُلُقه الكريم لزوجها بقولها: «مرَّ بنا رجل ظاهر الوضاءة، مليح الوجه، في أشفاره وطف، وفي عينيه دعج، وفي صوته صحل، غصن بين غصنين، لا تشنؤه من طول، ولا تقتحمه من قصر، لم تعلوه ثجلة، ولم تزر به صعلة، كأن عنقه إبريق فضة، إذا نطق فعليه البهاء، وإذا صمت فعليه الوقار، كلامه كخرز النظم، أزين أصحابه منظرًا، وأحسنهم وجهًا، محشود غير مفند، له أصحاب يحفون به، إذا أمر تبادروا أمره، وإذا نهى انتهوا عند نهيه، قال: هذه صفة صاحب قريش، ولو رأيته لاتبعته، ولأجهدن أن أفعل» المعجم الكبير للطبراني.
وقد مدحه أيضًا بعض شعراء الكفار، مثل الأعشى؛ حيث يقول في مدحه -صلى الله عليه وسلم-:
أَغارَ لَعَمري في البِلادِ وَأَنجَدا نَبِيٌّ يَرى ما لا تَرَونَ وَذِكرُهُ
وَلَيسَ عَطاءُ اليَومِ مانِعَهُ غَدا لَهُ صَدَقاتٌ ما تُغِبُّ وَنائِلٌ

وقال بعض الباحثين: إن شعر المديح النبوي فنٌّ مستحدثٌ لم يظهر إلا في القرن السابع الهجري مع البوصيري وابن دقيق العيد، والحق أن المديح النبوي ظهر في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- على يد حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وكعب بن زهير، وعبد الله بن رواحة، وقد أقرَّه النبي -صلى الله عليه وسلم-، بدليل أن كعب بن زهير بن أبي سلمى أنشد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد قصيدته المشهورة التي مدح فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-، والتي مطلعها:
مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُـفَـدْ مَكبولُ بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ

ويقول فيها:
وَالعَفُوُ عِندَ رَسولِ اللَهِ مَأمولُ أُنبِئتُ أَنَّ رَسولَ اللَهِ أَوعَدَني
ـقُرآنِ فيها مَواعيظٌ وَتَفصيلُ مَهلًا هَداكَ الَّذي أَعطاكَ نافِلَةَ الـ
أُذِنب وَلَو كَثُرَت عَنِّي الأَقاويلُ لا تَأَخُذَني بِأَقوالِ الوُشاةِ وَلَم

ثم ظل يمدح النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى نهاية القصيدة، ومن الأبيات التي يمدحه بها قوله:
مُهَنَّدٌ مِن سُيوفِ اللَهِ مَسلولُ إِنَّ الرَسولَ لَنورٌ يُستَضاءُ بِهِ

فأقرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- مدح كعب بن زهير له ولم ينهه عن مدحه ولا على إنشاده في المسجد، بل كساه بردة. ينظر: (الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 5/ 444، ط. دار الكتب العلمية).

وروى خُرَيْم بن أوس بن حارثة بن لام، قال: ((كُنَّا عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال له العباس بن عبد المطلب -رحمه الله-: يا رسول الله! إني أريد أن أمدحك، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: هَاتِ لا يَفْضُضِ اللهُ فَاكَ)) المعجم الكبير للطبراني، فأنشأ العباس يقول شعرًا منه قوله:
أَرضُ وَضاءَت بِنورِكَ الأُفُقُ وَأَنتَ لَمَّا وُلِدتَ أَشرَقَتِ الــ
النُّورِ وَسُبْلُ الرَّشَادِ نَخْتَرِقُ فَنَحْنُ فِي الضِّيَاءِ وَفِي

فنجد أن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أقرَّ عمَّه أن يمدحه ولم يعترض عليه، فهذا دليل على مشروعية مدحه -صلى الله عليه وسلم-.
وأمَّا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)) صحيح البخاري، فالإطراء المدح بالباطل، تقول: أطريت فلانًا مدحته فأفرطت في مدحه، قوله: «كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ» أي: في دعواهم فيه الإلهية وغير ذلك. (فتح الباري لابن حجر 6/ 490، ط. دار المعرفة)، فهو قد نهاهم عن المدح بالباطل فقط، ولم ينههم عن المدح مطلقًا. فالإطراء الذي نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو الغُلُو في مدحه -صلى الله عليه وسلم-؛ وذلك بأن يُمْدح بما هو من خصائص الله؛ كأن يُرْفع إلى مقام الألوهية أو يعطى بعض صفات الله، كما قالت امرأة في زمنه وهي تمدحه: «وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ»، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: ((لَا تَقُولِي هَكَذَا، وَقُولِي مَا كُنْتِ تَقُولِينَ)) صحيح البخاري، فنجد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهاها؛ وذلك لأن علم الغيب من خصائص وصفات الله، وقد أمَرَ الله رسوله أن يقول: ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ﴾ [الأعراف: 188]، فلا يعلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الغيب إلا ما علَّمه الله.

ولم يقتصر المديح النبوي على الصوفية، فهناك شعراء كثيرون مدحوا النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يكونوا متصوفة؛ لأنَّ حب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومدحه لا يقتصر على فئةٍ، أو مذهب أو جماعة من المسلمين فقد أرسل للناس كافة.

إلا أنه ازدهر شعر المديح النبوي وحقق وجودًا متميزًا في بيئة المتصوفة أواخر القرن السابع، وأوائل القرن الثامن الهجري في عصر الدول والإمارات المتتابعة، فقد كثر شعراء المديح النبوي في هذا العصر، وكثرت قصائده، ويعد البوصيري أستاذ هذا الفن بلا منازع لا في عصره فحسب، بل في العصور اللاحقة، إذ احتذاه كثير من الشعراء في العصر الحديث مستمدين معانيهم من رائعته. (الكواكب الدرية في مدح خير البرية)، والمعروفة باسم (البردة) وهي من عيون الشعر العربي، ومن أروع قصائد المدائح النبوية، ودرة ديوان شعر المديح في الإسلام الذي جادت به قرائح الشعراء على مرِّ العصور، وقد أجمع معظم الباحثين على أنها أفضل قصيدة في المديح النبوي إذا استثنينا لامية كعب بن مالك (البردة الأم)، حتى قيل: إنها أشهر قصيدة في الشعر العربي بين العامة والخاصة. وقد ذكر الشاعر في هذه القصيدة سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- من مولده إلى وفاته، وتكلَّم على معجزاته وخصائصه.

وبعد قراءة قصائد ودواوين المديح النبوي عبر تعاقبه التاريخي والفني يتضح لنا أنه كان يستوحي مادته الإبداعية، ورؤيته الإسلامية من القرآن الكريم أولًا، فالسنة النبوية الشريفة ثانيًا، كما أَنَّ هناك مصدرًا مُهِّمًا في نسج قصائد المديح النبوي يتمثل في اعتمادهم على الكتب المعتمدة في السيرة النبوية التي ذكرت تفاصيل حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- تفصيلا كبيرًا، مثل (السيرة النبوية لابن هشام)، و(السيرة النبوية لابن حبان)، و(الوفا بأحوال المصطفى) لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، و(الشفا بتعريف حقوق المصطفى) للقاضي عياض، وغيرها.

http://www.dar-alifta.gov.eg/ar/ViewResearch.aspx?sec=fatwa&ID=238


وعليه فمدح النبي -صلى الله عليه وسلم- من أعظم القربات، وإنشاده له فضلٌ كبيرٌ، وليس المديح خاصًّا بفرقة معينة بل هو للمسلمين جميعًا. والله تعالى أعلم