البدعة الحسنة
أصل من أصول التشريع
تأليف
خادم العلم الشريف
عيسى بن عبدالله بن محمد بن مانع الحميري
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله بديع السموات والأرض، خالق المخلوقات دون مثال سبق. والصلاة والسلام على من بُعث على مثال سبق، جاءنا بالمحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وضح شرع الله بفعله وقوله وتقريره، وجمع منهجية التوحيد في قوله صلى الله عليه وسلم: »إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم« الحديث (1).
فدل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ميز الفرائض من السنن لما حدَّ الواجبات، تنصيصاً على النواهي؛ لأن النهي يفيد حتمية وفورية المنع، وحدَّ السنن بالتراخي لأن الأصل في الأشياء الإباحة مالم يرد دليل نهي، وليس الأمر كما فهم بعضهم أن الأصل في الأشياء الحرمة مالم يرد دليل أمر، فهذا فهم المرجفين ومن حرموا نور اليقين.
واتضح لأولي الألباب أن الشارع إذا نهى ألزم، وإذا أمر لم يمنع، وإذا لم يمنع لم ينه، ولذا صدَّر النبي صلى الله عليه وسلم الوجوب في الحديث بالنهي، وصدَّر النفي بالأمر، لأن الأمر اشتماله محتمل، أما النهي فاشتماله حسمٌ ،فللشارع أمران ونهيان، أمر وجوب لا مندوحة لأحد بتركه إلا لضرورة، وأمر استحباب محمول على الاستطاعة،وكذلك الحال في النهي في الصورتين،وبذلك قَعَّد النبي صلى الله عليه وسلم القواعد للمنهجية الإسلامية متمشياً مع روح الإسلام ونور الشريعة، يشهد له قوله سبحانه: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً الآية [المائدة:3].
وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: »لقد خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم،خُطْبَةً ما ترك فيها شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكره، علمه من علمه وجهله من جهله«(1).
وأخرجه مسلم(2) بلفظ: »قـام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً، ما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدَّث به، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه...«.
وأخرجه مسلم أيضاً بلفظ آخر: »... بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة«.
فمن يطالب المسلم إذا فعل أمراً مستحسناً في الدين راجعاً إلى أصل مكين بفعل النبي وأمره صلى الله عليه وسلم فهو رجلٌ يكذب الرسول والرسالة، ويعارض روح الشريعة؛ لأن الشريعة يسر وما هي بعسر، وما خُير الشارع بين أمرين إلا اختار أيسرهما، بل إن الشارع الحكيم الرؤوف الرحيم لم يلزم الأمة بأوامره في النوافل تأدباً مع أمر الله، فأمر الله حسمٌ، لذا عبر بنهيتكم، وأمر رسول الله تخيير، ومن هذاالمفهوم وذاك أصبح لزاماً عليَّ بيان الأخطاء الشائعة في فهم هديه صلى الله عليه وسلم، كقوله صلى الله عليه وسلم: »عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ«(1)، فالسنة التي عناها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هي المنهجية في التعامل مع أصول الشريعة وأحكامها، لا يعني به السنة التشريعية التي هي الأصل الثاني من أصول التشريع؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم بعد انقطاع الوحي ليس بمقدورهم أن يؤصلوا أصلاً إلا على مثال سبق، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يشير في هديه هذا إلى تأسيس أصل من أصـول الشــريعة ألا وهــو الــقياس، الذي دلت عليه الآية الكريمة في معرض قوله سبحانه: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم[النساء:59].
يذكر الإمام الفخر رحمه الله في تفسيره أن هذه الآية تجمع في ثناياها مصادر التشريع الأربعة:
الكتاب والسنة والإجماع والقياس.