بسم الله الرحمن الرحيم
ــــــــــــــــ
وقد قامت همتي على ساق عزمي ببث أسـرار الله تعالى المضمرة بإمامنا السـيد أحمد الرفاعي عليه رضوان الله وتحياته، وبنشـر ما طوي في بنيه وعشـيرته وذوي عمه وعصابته، وبما زجل مرموزاً بحكمه من أسرار طريقته، ومن أحكام طويته وسريرته، ليحيي الله به بذلك الديار، وينور الأقطار.
وما تصديت وتصدرت لإعلاء وإعلان شيء من كل ذلك إلا بإذن خاص من رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤول إلى الله، ويدل على الله، لا علاقة لذلك بجيف الحطام الدنيوية، بل هو سحاح مدد من أنواء الغيوب، يفتح الله به أقفال القلوب، في أزمنة غلبت بها الأوهام العقول، والتفتت الأفكار إلى المشـهودات الصناعية، فقصرت أيادي القلوب عن فقه حكم النقول، ولهذا وجب على كل عارف محقق أن يخدم شريعة المصطفى عليه صلوات الله بما علَّمه الله، وقد علَّمني الله ـوالحمد للهـ عِلْمَ هذه الطريقة الأحمدية، التي هي أقوم طرق السادة الصوفية، وكلفني حبيبي ببث أحكامها ونشر أعلامها، انتظاماً بسلك الصديقين من أئمة آله المرضيين.
ومن المعلوم أن أشرف أنواع المخلوقين، النوع الإنساني، وأشرف النوع الإنساني، خواص النوع، ساداتنا الأنبياء والرسل العظام، عليهم الصلاة والسلام، وأكملهم دعوة، وأجمعهم شريعة، وأتمهم نظاماً، وأكثرهم للخلق نفعاً، وأوضحهم حجة، وأبهجهم مناراً ومحجة: سيدنا محمد الحبيب العظيم، الذي قال في حقه تعالى مخاطباً له: ((وإنك لعلى خلق عظيم)).
كيف لا وقد أتى بالدلالة السمحاء، والشريعة البيضاء، ونور بالعدل والحكمة والإنصاف وجه الآفاق، وقال: (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
وقد جمعت شريعته الطاهرة كل حكمة بديعة، وموعظة منيعة، وأسست أركان العدالة، وأوقفت كل أحد عند حده لا محالة؛ فجمع الله له القلوب، وقاد له الطباع؛ فاطمأنت لشريعته العادلة نفوس بني آدم، وعلا شاع برهان حكمة رسالته في العالم، ولم يمتنع عن الإقرار برفعة قدرها وصحة أمرها، إلا الحاسد الممقوت الممكور، والمكابر المحقور.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد = وينكر الفم طعم المـاء مـن سقـم
ومع كل ذلك فإن الأعداء من أصحاب الأفكار المنصفة، يذعن حزبهم سراً وجهراً للانقياد الخالص لشريعته الأحمدية وطريقته المحمدية:
أعداؤه شهدت بعالي فضلـه = والفضل ما شهدت به الأعداء
ومما يدل كل عاقل على أنَّ شريعته أعلى الشرائع النبويات مناراً، وأثبتها مداراً، جَمْعها لنفع الدين والدنيا، وأحكام أوامرها المطاعة بما يتعلق بكل حِكْمة نافعة في أمري المعاش والمعاد؛ وإنَّ باقي شرائع ساداتنا النبيين والمرسلين مقتصرة أحكامها على الأمور التعبدية، ومعاملة الخالق لا غير.
ولذلك ترى أنَّ الأمم السائرة ينتحلون لهم قوانين عمومية؛ ليصلحوا بها معاملة الخلق.
ولا بدع فإنها لا تخلو من أمور مغايرة للحكمة؛ لأنها من موضوعات المخلوقين، وقد يُرى أنَّ قانون قوم يطابق نفع جماعة منهم، ويخالف منافع آخرين؛ إلا أنَّ الشريعة المحمدية لكونها جاءت من الله بأمر الله على لسان حبيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ترى أن كل حكم من أحكامها الكلية والجزئية إذا أبصرته بعين التدقيق منصفاً، تجده محض نفع لا يثقل على طبع، ولا يضيق له وسع، ويؤيد ذلك قوله تعالى: ((لا يكلف الله نفس إلا وسعها)).
وقد استجمع نظامها الشريف الحكم الملائم لقوى النوع الإنسـاني في العبادات والمعاملات والعقائد.
ألا ترى أن أول أركان الإسلام التوحيد، والإقرار برسالة النبي العظيم، عليه أفضل التحية والتسليم، ثم إقام الصلاة، ثم إيتاء الزكاة، ثم صوم رمضان، ثم حج البيت من استطاع إليه سبيلا؛ ولم يجعل الجهاد ركنا سادساً ـ حال كونه من أعظم المفروضات الدينية لحكمة عجيبة، يسلم لها بعد إيضاحها عقل كل عاقل.
وهو أن التوحيد لَمَّا كان من الحقائق الثابتة بالبداهة، المؤيدة الحجة بالبراهين القاطعة العقلية والنقلية لقبول الطبع والعقل، صرف وجهة الاطمئنان إليه.
ويدل على ذلك تناهي الطبائع المصنوعة إلى شكل يفتقر إلى صانع يوطد برهانه، ويقيم على هيئته الطبيعية أركانه، وبعد هذه الحجة الواضحة، فإنه تعالى وتقدس:
في كل شيء له آية = تدل على أنه واحد
ومن المروءة أن يشكر الرجل المنعم والمحسن على نعمته وإحساناته، قلَّت أو كثرت، حتى إن خادم الرجل إذا سـقاه الماء؛ يجد بحكم الطبع السـليم أن يبش بوجهه مقابلة لصنيعه، وعلى هذا إذا صرف الشكر لكل ما يرد إليه من أنواع النعم والمعونات الواصلة إليه بحكم الضرورة البشرية كل على حدة، كالماء والطعام، كل نوع منه على حدة، والملبوس , كل لون ونوع منه على حدة، والمقيل وأسبابه، والنسيم وفروعاته، والنهار وبهجته، والليل وسكونته، وغير ذلك، يتشتت أمره، ولا يقدر على صرف وجهة الشكر لهذه الطبائع المتعددة، كل واحدة منها على حدتها، وإذا لم يفعل ذلك ويؤدي واجب شكر ما يرد إليه، فعلى قاعدة الآداب المعروفة يكون كفر نعمة، بل ويجد نفسه مُفرِّطاً ولا ريب.
فإذاً وجب عليه عقلاً ومروءةً وديناً أن يصرف وجهة الشكر القلبي لخالق النعم، وموجد الأمم، وأن يوحده وينزهه عن الأغيار: ((ألا له الخلق والأمر)).
ومن هذا يجب عليه ذكر من دله على سر هذا التوحيد، ليعرف منزلته، ويتبع أثره وطريقته، إقراراً برسالته، وتشرفاً بمتابعته عليه أجل الصلوات والتسليمات، فيقول بعد قوله: (اشهد أن لا إله إلا الله): (وأشهد أن محمداً رسول الله) ومتى تنور قلبه بالإذعان الخالص المحض، والاعتقاد السليم بمعرفة مكانة نبيه عليه السلام، ألزم نفسه العمل بعمله، فصلى، وزكى، وصام، وحج.
على أنَّ في الصلاة بتكررها في اليوم والليلة خمس مرات ملاحظة الوقوف بين يدي الله، ومن الملاحظة المذكورة يتنبه العبد، فلا يعصي الله، ولا يخالف أمره، ومن ذلك تحصل له نتيجة الأدب مع الله، وسلامة النية لخلق الله، فلا يعدو على أحد، ولا يؤذي أحداً، لا بمال، ولا بعرض، ولا بنفس، وقوفاً عند حدود الله، وعملاً بقوله تعالى: ((إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)).
وذا لم يتنبه من الوقوف بين يدي الله في صلاته، ويتذكر الوقوف بين يديه في حشره ويخشى سؤاله، فليس بمصلّ.
وأما الزكاة، فإنها مشتملة على حِكَمٍ عظيمة، منها الحث على جمع المال الحلال، وفيه توسيع أمر التجارة والصناعة والعمران، ومعونة الفقراء من إخوانه المسلمين الموحدين وغير ذلك.
وإلا إذا اجتمع المال من حرام وغدر وخيانة، فزكاته ليست بزكاة , وفي هذا يكفي للمتدبر.
والصوم مشتمل على حِكَم، منها أن الغني يجوع، فيذكر الله، ويرجع إليه، ويتذكر الفقراء، فيعينهم ويحسن إليهم ويتودد لهم، والفقير ترقى همته فيرى أعمال الأغنياء من الخيرات، فيسعى في طلب المعيشة وإصلاح شأنه.
ومنها أن الإفطار لابد أن يكون على المال الحلال؛ فإذن يمتنع المكلف بالصوم عن إضرار الناس أموالهم البتة.
ومنها أن النظر إلى أعراض الناس، والإفساد بينهم، ومغيبتهم، والسعي بالرجل واليد لأذية فرد من أفراد الخلق، من مفسدات رابطة الصوم، فإذن ينقطع الصائم عن كل فعل ممنوع عنه شرعا، وإلا فلا يعد صائماً.
والحج فيه حِكَمٌ كثيرة، منها السعي لازدياد المال الحلال بالكسب الطيب، حتى يتمكن من الزاد والراحلة، وفيها بركة السياحة التي توقف الرجل على خبايا الزمان، وأسرار البلدان، وتصلح طبعه؛ فإن من لم يسافر ويختلط بالناس، ويرى البلاد السائرة، محجوب عن الوصول إلى حقائق ما وضع في الزمان على الغالب، وقد تزكو أخلاق السياح، وتنقلب من الكبر إلى التواضع، ومن الوحشة إلى المؤانسة، ومن الغلظة إلى الرقة، ومن الجهل إلى العلم، ولو بأمزجة الناس وكيفية مسالكهم في أوطانهم.
وان كان السياح من أهل الفضل والعلم والكمال، فلا بد أن يزداد فضلاً وعلماً وسعة اطلاع.
ومن الحِكَمِ المطوية في الحج، تذكر الحشر والنشر في الجبل، ووقوف الرجل على أحوال إخوانه المسلمين، والإحاطة بأخبارهم من سائر أقطار الدنيا، خفيها وجليها، وغير ذلك.
وكل ما ذكرناه من الأركان الدينية مؤيد بعضه لحكمة بعض؛ آمر بوقاية حقوق النوع الإنساني وتمهيد أركان حضرة الإطلاق الشرعية لكل فرد من أفراد المخلوقين، والحكم الكافل لدوام هذه الأركان الشريفة الجهاد، ولذلك لم يُعَدّ ركناً سادساً، لكونه كافلاً لحفظ الأركان، ولا يستعمل إلا بشروطه الصحيحة المرعية شرعاً.
منها أن الهيئة الإسلامية إذا رأت فرقة أو حزباً أو فرداً من الناس قام لهدم هذه الأركان، وتصدى لإعادة بغي الجاهلية وإقامة شعائر الظلم والعدوان، وتخريب منار الحرية الإسلامية التي أمن بها كل فرد على نفسه وماله ودينه وعرضه؛ يُنصح إلى أن يفىء إلى أمر الله، فإن فاء إلى أمر الله وتاب وآب واندرج ضمن هذه الهيئة المباركة قولاً أو ديناً، أقرُّوه دار الأمان، وقالوا له: لك ما لنا، وعليك ما علينا، وان لم يفعل قاتلوه، لا على عصبية، ولا على غرض، إنما لتمهيد أركان الأمن العام، ووقاية نظام العدالة الإلهية التي وهبها الله تعالى بأمر رسوله العظيم لكل من المخلوقين، ((والحمد لله رب العالمين )).
وكل هذا لُباب ما قرره شيخنا سيد الصديقين، الإمام الرفاعي رضي الله عنه. وقد ذكر من مناهج السلوك إلى الله وسائل في الطريق أربعة فيها الحصول على خير الأمر الديني وجمع الحال مع الله تعالى .
فالوسيلة الأولى:........
يتبع إن شاء الله تعالى